لقد مثل فرعون النموذج الأسوأ للحكم و الأفظع للطغيان السياسي، بطشا، وظلما، وجبروتا، و استعلاء ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ) . و إذا كان الشيئ بالشيئ يذكر فإن مزاعم فرعون الذي نسب بموجبها لنفسه الاصطفاء، و ادعى على أساسها الألوهية؛ ليحمي موقعه السياسي، و يحتكر الحكم، فقال : (ما علمت لكم من إله غيري) و قال : ( ما أريكم إلا ما أرى)، فها نحن أمام مزاعم سلالية، تفتري على الله الكذب، و تزعم لنفسها الاصطفاء الذي تستجدي به و تدعي بسببه - كذبا و زورا - أحقيتها الأبدية في الحكم، و أن هذه المزاعم التي تدعيها أوامر إلهية . هذه الإدعاءات الباطلة، و المزاعم التي أرادوا أن يلبسوها ملابس الدين؛ سبقهم إليها قساوسة و ملوك النصارى الذين أعطوا لأنفسهم أنهم يمتلكون الحق الإلهي في الحكم، و أنهم يمتلكون حق إدخال من يشاؤون الجنة، و آخرين النار ، و هذا ما يقوله قساوسة السلالة الحوثية ، و هو ما أشار إليه أبو الأحرار، الشهيد محمد محمود الزبيري :
أوراقكم لشراء الشعب تذكرنا ما باعه قسس بالصك و اختلسوا أتنكرون عليهم بيع جنتهم يا قوم لا تخدعونا كلكم قسسُ
و قد سبق الجميع إلى مزاعم الاصطفاء و الخيرية - مثلهم الأول - إبليس يوم أن قال :( أنا خير منه).
استشهد الحسين بن علي - رضي الله عنه - يوم عاشوراء، و ذلك بعد أن أصرّت شيعة العراق عليه و استدعته للقدوم إليها بعد أن توفي معاوية ( رض ) و لم يكن الحسين قدأعطى البيعة ليزيد . قام أهل الكوفة بإرسال الوفود، و بعث الرسائل الكثيرة للحسين ابن علي رضي الله عنهما في مكةالمكرمة، يطلبون منه المجيء إلى الكوفة لمبايعته رافضين خلافة يزيد، و تكررت الوفود و توالت منهم الرسائل ، و منها كتاب بعثه له عدد من وجهاء الكوفة، كما في البداية و النهاية لابن كثير : " أما بعد فقد اخضرّت الجنان وأينعت الثمار ولطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة والسلام عليك. فاجتمعت الرُّسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية" .
كثر الإلحاح و كثرت الرسل و الوفود التي تفد على الحسين ؛ و لأنه قد خبر خذلان الشيعة و غدرها، فقد أراد أن يتأكد من مصداقيتهم، و ذلك أن ( بعث ابن عمه مسلم ابن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر و الاتفاق، فإن كان متحتما و أمرا حازما محكما بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ... و كتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك )، كما أورد ذلك ابن كثير . توجه مسلم بن عقيل نحو الكوفة - عاصمة العراق يومها - بناء على الكتب الكثيرة التي وصلت من أهل العراق إلى الحسين، و الرسل الذين قدموا عليه في مكةالمكرمة، و العهود التي قطعوها له على أنفسهم ، فلما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة، و اجتمع على بيعته من أهلها ثمانية عشر ألفا، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليه فقد تمهدت له البيعة والأمور .
و بالرغم من معارضة عبدالله بن عمر، و عبدالله بن عباس، و عدد آخر من الصحابة رضوان الله عليهم للحسين من الاستجابة لمطالب أهل العراق، و نصحهم له بعدم تصديقهم، و تذكيره بأنهم قد خذلوا أباه و أخاه من قبل، إلا أنه رضي الله عنه ، و بناء على الكتاب الذي أتاه من مسلم بن عقيل فقد ( تجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة ).
علم أمير الكوفة عبيد الله بن زياد بأمر مسلم بن عقيل حتى بدأ بملاحقة رؤساء القبائل، وأخذهم بالشدة و الغلظة ؛ و لكي يقطع مسلم على أمير الكوفة الطريق و يحسم شر الملاحقة ز إخافة الناس و تفريقهم عن مسلم بن عقيل، فإنه ما إن سمع بتحرك ابن زياد حتى ركب ونادى بشعاره " يا منصور أمت " فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة - أنظر، بايعه أكثر من ثمانية عشر ألفا، و حين جد الجد لم يستجب غيرأربعة آلاف - و كان معه المختار بن عبيد، و معه راية خضراء، و عبدالله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة و ميسرة و سار هو في القلب إلى عبيد الله - في قصر الإمارة -، و هو يخطب الناس و يحذرهم من الاختلاف، و أشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره، فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون : جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب ، فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهدّدوهم وتوعّدوهم، وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ... فتخاذل الناس وقصروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس، ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة ثم تقالوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة، ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه، ولا من يأويه إلى منزله ) ابن كثير . تم إلقاء القبض على مسلم بن عقيل، كما تم ضرب عنقه بالسيف ! ويبرز - هنا - تساؤل مُلحّ يبحث عن ثمانية عشر ألفا أعطوا بيعتهم، و قبل ذلك يبحث عن رؤساء القبائل و أمرائها ممن ألحت كتبهم و رسلهم على الحسين بالقدوم عليهم لمبايعته، فلما جاء ابن عمه ليستكشف الأمر ؛ و لأخذ البيعة منهم له، فبادروا لذلك، لكنهم عندما جدّ الأمر إذا بهم يخذلونه تماما فلا يبقى معه فرد واحد !!
حتى المختار بن عبيد الثقفي الذي سنجده - فيما بعد - يطالب بالثأر للحسين كان من جملة من خذله، و قد كان - كما رأينا - قائدا في ميمنة جيش مسلم بن عقيل، لكنه غدر و خذل، و فر هاربا حتى بقي مسلم وحيدا فريدا، و تخلى عنه كل الذين أعطوه البيعة للحسين و كانوا قرابة عشرين ألفا !
خرج الحسين رضي الله عنه من مكةالمكرمة متوجها إلى العراق أواخر سنة 60 من الهجرة، و في الطريق أتاه خبر مسلم بن عقيل، و ما صار إليه أمره من خذلان و غدر الشيعة ، فقال مخاطبا من معه : ( خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذمام) ابن كثير. و لأن خبر قدوم الحسين إلى الكوفة كان قد انتشر، فإن عبيد الله بن زياد جهز جيشا لملاقاة الحسين في الطريق. و تتابعت جيوش عبيد الله بن زياد لملاقاة الحسين حتى بلغت خمسة آلاف، فيما كان مَنْ مع الحسين اثنان و سبعون رجلا. و التقى الفريقان، فقام الحسين يخاطب بعض الذين كاتبوه و طالبوه بالمجيء إليهم و عاهدوه على نصرته فناداهم بالاسم : ( ياشبيث بن ربعي، ياحجار بن أبجر، ياقيس بن الأشعث، يازيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أنه قدأينعت الثمار واخضرت الجناب، فاقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة ؟ فقالوا له : لم نفعل ). تأمل ، قالوا له لم نفعل ، لقد أصبحوا بكل وقاحة يقفون في مواجهته ، مُشرِعين سيوفهم لحربه !
لقد خذلوا مسلم بن عقيل بالأمس القريب، و اليوم ينكرون أنهم راسلوا الحسين و ألحوا عليه بسرعة المجيء إلى العراق حيث له الجند المجندة كما زعموا، لكنهم مكروا و غدروا و خذلوا، و الأدهى من ذلك أنهم تحولوا إلى مقاتلين ضده . و نتجاوز الموقف المؤلم الذي آل إليه أمر الحسين و استشهاده، و كل من معه من أهله، فهو أمر مؤلم و محزن ، و لكنه مع مرارته يبيّن أكاذيب و مزاعم الشيعة في حب علي و بنيه رضي الله عنهم أجمعين.
إن الحسين رضي الله عنه في عمق أفئدة أهل السنة حبا و تقديرا، و هو عند الشيعة ليس أكثر من وسيلة لتحقيق أهداف الرافضة و أهداف الفرس، كما أنهم يتخذون منه عنوانا لجباية الأموال ليس غير !!
و قد خذلوه، و غدروا به، بل و شاركوا في محاربته و قتاله مع ابن زياد، و بكل صفاقة و كذب يأتون اليوم لتأجيج المشاعر الضالة رافعين شعار : يا لثارات الحسين !!
و هم من غدروا به و قاتلوه .
و مع ما في مصير الحسين من ألم و حزن، فإنه يبين بوضوح مواقف الشيعة منذ وقت مبكر ؛ من غدر و خذلان و تنكر، و لقد صرح بذلك الإمام علي كرم الله وجهه، بعد ما عاناه منهم، حيث خاطبهم قائلا : ( يا أشباه الرجال و لا رجال ! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدما قاتلكم الله! .. لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا ... لوددت أني أقدر أن أصرفكم الدينار بالدراهم عشرة منكم برجل من أهل الشام، أف لكم !! لقد سئمت عتابكم ...ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها فكلما جُمِعت من جانب انتشرت من آخر !!! ) . و قال فيهم الحسن :( أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء ! يزعمون أنهم لي شيعة !؟ ابتغوا قتلي).
و ها هو الحسين يقول بمرارة، بعد أن تبين غدرهم و خذلانهم ( خذلتنا شيعتنا ) و أي خذلان أعظم من خذلانهم للحسين في موقف بلغت الشدة ذروتها، و خاصة بعد دعوتهم له، و معاهدتهم و مبايعتهم إياه !!
هذا و الشيعة في هذه المرحلة لم تكن قد تشربت ما أدخله الفرس عليها من أباطيل و مزاعم، و إن كان هناك أثر واضح فيما انعكس من ثقافة سلوكية متأثرة بدسائس عبدالله بن سبأ من زعزعة في الأخلاق الإسلامية، و بيع للمواقف، و ضعف في التمسك بقيم الإسلام كالوفاء بالعهد، و الابتعاد عن الغدر و المكر و الخذلان .. الخ.
لقد غدا هذا السلوك السيئ أساسا لسلوك الشيعة في المراحل التالية، بل أضافت كل مرحلة مزاعم و أباطيل و دسائس و خرافات .. سُخّرت كلها ، و وظفت لدعم ما يريده الفرس الذين استغلوا كل هذه الظروف لخدمة مآربهم، حتى سادت الأباطيل و الخرافات فكر الشيعة و ثقافتها و أصبح الإسلام مجرد عنوان تُمرِّر من خلاله الشيعة أباطيلها باسمه، و هي أبعد ماتكون عن قيم الدين الحنيف. بقي أن نعلم أن الحسين استشهد في المحرم من العام 61 من الهجرة، و بدأت بعض فرق الشيعة تظهر الحزن عليه و تضرب نفسها ندما على خذلان سابقيهم ابتداء من سنة 352 هجرية. أي أن مظاهر هذه الاحتفالات بدأت بعد استشهاده بقرابة 300 عام. لكن تثبت الشيعة أنهم مقرون و معترفون بأنهم شاركوا في قتله مع ابن زياد، فهم اليوم يضربون أنفسهم ندما لشعورهم بالذنب و زعم التكفير عن خطيئتهم، التي يحاولون اليوم إلصاقها بغيرهم برفع شعار يالثارات الحسين ! استدعوه، ثم غدروا به، ثم شاركوا في قتله ، ثم ينوحون الي م و يبكون مطالبين بالثأر له، وهم السبب الأول، الشركاء الحقيقيون في مقتله.