صُعِقت قبائل هوازن و الطائف و من إليهما مما أنعم الله به من فتح مكةالمكرمة على يد رسوله الكريم في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة الشريفة. و كان من ردة فعل تلك القبائل أن تنادت، و تجمعت؛ لتقرر غزو مكةالمكرمة.
أتت الأخبار للنبي عليه الصلاة و السلام بأنباء تحركات تلك القبائل و هو لايزال بمكةالمكرمة يوطد أمنها، و يرتب أمورها فاتخذ قراره بالتوجه لمنازلة هذا الغزو و العدوان الذي يتهدد مكةالمكرمة، فخرج باثني عشر ألفا ؛ منهم ألفان ممن أسلموا في مكة حين الفتح.
لم يجبر النبي صلى الله عليه وسلّم أهل مكة على الإسلام، فكان منهم من أسلم و في نفسه شيئ، و منهم كصفوان بن امية بن خلف الذي طلب شهرين مهلة للتفكير في الدخول في الإسلام، فمنحة الرسول الكريم أربعة أشهر.
فيما المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم سائرون أول الفجر في وادي حُنين باغتتهم كمائن قبائل هوازن و الطائف التي أمطرت مقدمة الجيش بالنبال و السهام من كل مكان من الوادي مما تفاجأت معه مقدمة الجيش التي تعرضت لوابل من تلك السهام و النبال، و أصاب الإبل الإرباك فتراجعت المقدمة متقهقرة للوراء منهزمة.
في مثل هذا الظرف تسقط أقنعة، و تظهر قناعات مختفية، و تنكشف رغبات مدفونة، و تبرز رواسب متربصة.
برزت مثل هذه الرغبات لدى بعض زعامات مكة الذين أعلنوا إسلامهم بالأمس القريب؛ فلما رأوا ذلك التقهقر و الانكسار حنّت نفوسهم لماضيها، و تذكرت زعامتها، و مكانتها التي يرون أن فتح مكة سلبهم إياها، و حنوا لاسترجاع ما فقدوا، حتى قال أحدهم فرحا مسرورا، و شامتا ساخرا : هزيمة دونها البحر ! متمنيا هزيمة المسلمين.. و قال الآخر: ألا بطل السحر اليوم !
ثمة نفوس تغمض عينيها عن النور، فتتقبله مسايرة له، فيما تمشي و هي مغمضة البصر، و البصيرة؛ لأنها إنما انحنت منتظرة فرصة، او مترقبة سانحة تسنح لها لتنقض ! فهي لا شأن لها بمبدأ أو هدف، و لا في مخيلتها غاية، و لا تحمل هم رسالة في الحياة؛ بقدر ما أنها تحن لمصالحها، أسيرة لأنانيتها، مقيدة بمنافع ماضيها التي لا تبالي من أجل ان تعود إليه في أن تتخلى عن كل مبدأ، أو تتنكر لكل غاية و رسالة.
و جاء النداء المُوقظ من الرسول الكريم، الذي صمد كقائد معلنا عن مكانه و موقعه، ثابتا في ميدانه، و على صهوة فرسه : أنا النبي لا كذب .. ثم أمر عمه العباس أن ينادي بصوته أهل بيعة الرضوان؛ يا عباس نادي أصحاب السَّمُرة.. فكان النداء.. و يصف العباس موقف أهل المبدأ، و من يحمل فكرة، أو رسالة :" فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك.. يا لبيك".
ليست المبادئ تصريحات، بل أفعال.. و ليست المواقف بيانات، و إنما هي ميدان.. و لك أن تقارن بين من يتقمّص المواقف قولا، و بين من ينفذه عملا و واقعا ؛ فقد تعرّى موقف القوّالون: هزيمة دونها البحر .. ألا بطل السحر اليوم ؛ و كان على خلاف موقف الفعّالين، الذين أشرقت مواقفهم: يا لبيك.. يا لبيك..!!
و ما هي إلا جولة حتى كان فرسان، و زعامات ثقيف، و الطائف في حبال الأسر، أو كانوا فلولا في دروب الهزيمة.
على أننا سنلتقي بهؤلاء الطلقاء، و الشامتين القائلين: هزيمة دونها البحر.. أو من قالوا: ألا بطل السحر اليوم؛ سنلتقي بهم حين قام النبي عليه السلام بتقسيم الغنائم؛ حيث اندفعوا لنيل أكبر قسط منها ، و نُحّيَت الغنائم عن المهاجرين و الأنصار كلية؛ حيث خاطبهم الرسول: وَكَلْتُكم إلى إسلامكم.. أو: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير، و ترجعوا برسول الله إلى رحالكم ..!
و يسمي عليه الصلاةوالسلام ما فرق للطلقاء من ذهب و فضة، و غنم ، و إبل :" لعاعة من الدنيا تالفت بها قوما ليسلموا".
على أن من حق أولئك الطلقاء أن نذكر بأن صف الأتقياء احتضنهم فأحسن استيعابهم، و كانت لهم أدوار في فتوحات الشام و العراق.
يقف بنا الواقع اليمني اليوم أمام نداء المبدأ، و ما توجبه الرسالة و الفكرة، من الانتصار للعقيدة و الهوية، و لَنِعْم هذا المبدأ و الرسالة، و لنعم هذا النداء.. و ياللخيبة و المهانة لمن تناديه لعاعة الدنيا لمنفعة شخصية، او جهوية، أو عائلية.
غير أني لأحسب أن الظروف التي عاشها اليمنيون، و الواقع الماثل قد علم الجميع أن يتشبهوا بأصحاب أهل السَّمُرة. و ستكون الاستجابة للنداء: يا لبيك.. يا لبيك.