و تمضي مكة تنفحنا من أخبارها، قائلة: و تعطرت أنحائي يوم أن هبط رسول السماء، يحمل الوحي إلى رسول الأرض؛ رسول البشرية، فتعطرتُ ب : " إقرأ باسم ربك الذي خلق". و ما كان ليكون ذلك العطر الزكي الذي لا ريب فيه أن يقف عند أنحائي و شعابي، و إنما كان النبأ العظيم الذي غير مسار التاريخ، و اخرج الناس من الظلمات إلى النور.
و شهدتُ محمدا صلى الله عليه وسلّم و هو يبدأ دعوته سرا ينتقي لها و يختار ؛ من بين مختلف الفئات، قبل أن يأمره ربه أن يصدع بدعوته و يعلنها : "وأنذر عشيرتك الأقربين". و راح محمد يجاهر بدعوته و يبلغها للناس أجمعين؛ لتثور ثائرة قريش أمام هذا النبأ العظيم.
و ذات صباح سمعت محمدا و قد صعد جبل أبي قبيس؛لينذر عشيرته الأقربين، مناديا عشائر قريش أجمعين : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدّقِيّ؟ " قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذبا قط، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: " تبت يدا أبي لهب وتب".
و ستذكّرنا مكة هذا مرة أخرى في أثناء سرد ما ترويه.
تُرَاعَى النبتة و هي صغيرة ، فإذا مدّت جذورها، و شقت تربتها ، و تمسكت عروقها ، أصبحت و قد استعصت، و نمت، و أزهرت و أثمرت.
لكن قريشا بطغاتها، بطرت، و هددت، و توعدت، و نهت عن اتباع بذرة العطر المنتشر :" أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى". لقد ظنت قريش و طغاتها ، أنهم قادرون أن يحبسوا شذى العطر المنتشر، أو يسجنوا الضياء الذي تعالى؛ فراحوا يهرعون و يهرولون في أنحائي و شعابي ، يهذون بجنون ، آمرين البسطاء من الناس: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيئ يراد".
و مضى محمد يُعَرّفُ الثبات بالثبات، فما وهن و لا استكان، و مضى مَن معه يتلمسون خطوه، و يتمثّلون صبره، و يقتدون بثباته.
و مضت دعوته يتناقل أخبارها كل قادم في مواسم الحج ، و الأسواق ، فيعودون إلى قبائلهم يقصون الأخبار ، و ينقلون صور الصراع، و كم من رجال رأيتهم يطرقون أبوابي لمعرفة محمد عن قرب، و معرفة ما يقوله عن مشافهة.. ثم يولون إلى قومهم منذرين.
و إن أنس لا أنسى يوم بيعة العقبة من منى، و الرسول محمد يضرب لأهل يثرب الذين أسلموا موعدا في أوسط أيام التشريق. و كم هالني ذلك المنظر المهيب لثلاثة و سبعين رجلا و امرأتين ، ممن قدموا للحج ، و هم يتقاطرون لأداء البيعة في الهزيع الثاني من الليل على خوف من أن ينكشف أمرهم لقريش ، التي تحصي على الرسول و القلة المسلمة حركاتهم ، و أنفاسهم، ظنا منها أن بمقدورها أن يطوي الظلام الضياء.
و شهدت بعد بيعة العقبة الكبرى بثلاثة أشهر، و الركب المهاجر من المسلمين ، آحادا، و مثنى ، و فرادى يغادرونني بهجرة نحو يثرب. و هنا جن جنون قريش ! إلى أين يمضي هؤلاء؟ و ما وراء خروجهم؟
يضيق الطغاة بالضياء .. يضيقون به و هو يبهر أعينهم، و يضيقون به و هو يمضي بجدية كاملة ليطوي كل ظلام وكل ظلمة بعيدا عنهم.
و شهدتُ تداعي الملأ من قريش إلى دار الندوة للتأٓمر على الرسول الكريم: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك" ! و هناك قرروا تنفيذ جريمتهم .. شأن الطغاة الظالمين في كل زمان و مكان.
و فيم احتشد الأربعون مجندا للطغاة يرقبون دار محمد عند خروجه منه ليقتلوه ، كنت أراقب مصيره، أكاد معه أن تتصدع جبالي، و تنهد شعابي، خوفا عليه، و رعبا مما قد يحل به.
و كما تشرّف غار حراء باستقبال أولى آيات النبأ العظيم ؛ تشرف غار ثور بأن يكون محطة مغادرة محمد صلى الله عليه وسلّم، و صاحبه أبي بكر الصديق في هجرتهما.
و شهدتُ حول غار ثور مشهد مفزعا، و الملأ من قريش، و جلاوزتهم يحدقون بالغار، و قد وصل بهم قُصّاص الأثر، إلى حافة الغار ، قائلين،: هنا انتهى الأمر بصاحبكم ! و كما كان فزعي و خوفي؛ كان فزع أبي بكر و خوفه، و هو يرى الطغاة على الغار ، و هناك سمعت آيات تتلى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ ييول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا".
لقد خاب الطغاة في مسعاهم ، و فشل الملأ و الزعامات في مخططاتهم ، و انقلبوا خائبين خاسرين، معلنين عن مائة ناقة لمن يأتي بهما حيين أو ميتين.
قد يشتري المال رخاص الناس، و ضعاف النفوس، لكن لله في الناس أرقام لا تنحني، و صلابة لا تلين، و مبادئ لا تتبدل.
مَن بمقدوره من البشر أن يحبس الضياء؟ من يستطيع من الطغاة أن يسجن النور؟" قتل الإنسان ما أكفره".
لم تقل مكة كل ما تريد بعد، و لكنها ستكمل بعض ما تريد.