على مدى عقد كامل تدور حروب مختلفة في المنطقة كلها تتركز في منطقتنا العربية التي استخدمت كساحة للتصفيات بين مختلف القوى العالمية، وتصديرها بعيداً عنهم، وكلها تتنافس أيها تفوز بمنطقتنا العربية ذات الموقع الجغرافي المميز أو التي تتركز فيها الثروات المتعددة والتي تحاول هذه القوى نهبها بطريقة أو بأخرى، أو سعياً لتثبيت إسرائيل في المنطقة وتدمير كل ما يهددها دون أن تتصالح مع شعوب المنطقة ولا اعتباراً لأي من مصالح الشعوب. مشروعان تدميريان تم غرسهما في المنطقة يعملان لصالح هذه القوى الغربية؛ هما مشروع إسرائيل التي تم غرسها في قلب الوطن العربي من قبل أوروبا وأمريكا، أو لنقل من قبل المشروع الصليبي الحديث، ولتثبيته يتم ضرب كل عوامل القوة في المنطقة حتى لا تكون مهددة لها، بينما يتمثل المشروع الثاني بالمشروع الإيراني الطائفي كأكبر عوامل الإضعاف والتفتيت داخل منطقتنا العربية والإسلامية، وبما يسهم أيضاً بتقوية إسرائيل من ناحية أخرى.
فلو قرأنا وأدركنا الظروف المحيطة التي أنتجت إسرائيل، وكذا الصراعات بعدها سنجد أنها كانت بيئة حروب مستمرة تهدد بقاء إسرائيل كقوة مشاغلة للعالم العربي والإسلامي عن التقدم، فلما لم تكن أداة إسرائيل فاعلة بما فيه الكفاية تم تعزيزها بالمشروع الإيراني الذي جيء به عقب حرب أكتوبر بخمس سنوات كعامل من عوامل التصدي لصحوة عربية إسلامية كانت تتقد في تلك الآونة، لتكون أولى نتيجة لذلك المشروع الجديد المغروس في قلب المنطقة هو تفجير حرب شاملة بينه وبين العراق كمشروع عربي توحدت خلفه الدول العربية، للمزيد من الإسهام في إضعاف وإشغال المنطقة كذلك.
دارت عجلة الزمن سريعاً، وأنتج هذا المشروع مشاريع تفتيتية أخرى تقسم المقسم وتجزئ المجزأ وتمنع نهوض الدول والشعوب وشكلت طوقاً أمنياً حامياً لإسرائيل، بينما في ظاهره مقاوماً لها محتكراً للمقاومة، وهو في الأساس مقيد للشعوب من إنشاء مشاريع مقاومة حقيقية، ولما تعدت الخطوط المرسومة لها وصارت تكبر حيناً بعد آخر تم إضعافها وتدميرها تدميراً جزئياً لا استئصالياً للحفاظ على نواته وبذرته، وقد شكلت عامل تقييد للمقاومة أكثر من عامل نصير لها، كما هو حال حزب الله في جنوبلبنان مثلاً، والحوثية في اليمن.
ظلت المراشقات مستمرة بين إيران وإسرائيل بحروب إعلامية لا أكثر، وبينهما تستخدم القضية الفلسطينية لتصفية الحسابات بين الطرفين، وبين أطراف متعددة من وراء ستار. تفجرت حروب مختلفة في المنطقة، وكلها لا تخرج عن إحدى الغايتين اللتين تحدثنا عنها آنفاً، ومن خلال المراقبة والتراكمات المعرفية والقراءات المتعددة فيها فقد ظهر لنا في هذه الحروب الأخيرة أنه لا عداءَ حقيقياً لإسرائيل من كل من يدعي عداءها أو مواجهتها، كما أنه لا عداء حقيقياً لإيران وأدواتها من كل من ادعى عداءها، وإلا لكانت حروب الحسم واضحة تجاه الطرفين، وهو ما تجلى في شكر الرئيس الأمريكي ترامب للطرفين ؛ إسرائيل وإيران. عدم حسم المعارك التي خيضت طيلة العقد الأخير تجعل لمن يديرها أهدافاً أخرى غير التي أعلن عنها، مع أن طرق ومسالك الحروب للانتصار فيها واضحةً ومعروفة للجميع وتقليدية يدركها حتى الطفل الصغير مهما تنوعت الأدوات وتطورت، لكن الخاسر الوحيد فيها هي الشعوب العربية.
وفي اليمن -على سبيل المثال- بينما كانت جيوش المقاومة اليمنية، وبدعم كامل من التحالف العربي على وشك السيطرة على ميناء الحديدة، والجيش الآخر على مسافة بسيطة من صنعاء تدخلت الدول الكبرى لإيقاف هذا التقدم وفرض اتفاق استكهولم بالقوة، وإعادة القوات المشتركة من الحديدة إلى الوراء قرابة مائة كيلو متر، وكان الفيتو البريطاني والأمريكي يفعل فعلته، والأمم المتحدة تسوق الأكاذيب وتتخذ من الأزمة الإنسانية لافتة وشماعة لإيقاف هذا التقدم في الوقت الذي لم تكترث للأزمة الإنسانية في مدينتي تعز ومارب، على الرغم من رفع الجانبين (البريطاني والأممي وحتى الأمريكي) العداء والنقد تجاه إيران. حرب إسرائيل وإيران كانت فضيحة كبرى لإيران ونصراً كبيراً لإسرائيل. نصر إسرائيل تمثل في اختبار قدراتها للتدخلات بعيدة المدى خارج جغرافيتها ومحيطها المجاور، وبهذا تكون قد حققت عدة أهداف: - سياسة الردع البعيدة - إظهار القوة الخارجية - إظهار قوتها الجوية - إيصال الرسائل المتعددة لدول عديدة في المنطقة بعيدة عنها يمكن أن تفكر في عدائها تجاه إسرائيل - الأهم من كل ذلك ربما تقريب وتعجيل وفرض عملية التطبيع مع المحيط بها من زاوية الانتصار. - فضح إيران في مناصرة القضية الفلسطينية ونصرة المقاومة في غزة.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبطرق فكاهية، يكشف لنا دوماً ما يجري في كواليس هذه الحروب، وما يكشفه لم يكن هيناً بل يسرب فضائح إن صح التعبير ولكن بطرق فكاهية؛ كاستئذان إيران في الرد سواء في العراق قبل أعوام، أو بالأمس في قاعدة العديد القطرية! فهل رأيتم أو سمعتم نظاماً تستباح بلده وتدمر إمكانياته ويغتال علماؤه ثم يستأذن عدوه بالرد ويعطيه إحداثيات الرد ونوع السلاح وتوقيت الضربة كما فعل نظام الملالي مع أمريكا وإسرائيل في الحرب الأخيرة؟!
إسرائيل باغتتً النظام الإيراني وضربت في عقر داره، بل وأقامت مصانع الطيران المسير الذي يضرب المنشآت الإيرانية في قلب طهران، ودمرت مع أمريكا منشآتها النووية واغتالت أهم العلماء النوويين واغتالت القادة العسكريين من الصف الأول وعمود النظام الإيراني الذي ظلت تراكم بناءه عقوداً من الزمن وكلفها تريليونات الدولارات حصاراً وحرباً وتصفية، بينما يكون الرد الإيراني استئذان في الضربات، وإعطاء إحداثيات وتوقيت الضرب والرد، ويأتي الرد باهتاً ليس على مستوى الحدث وهو ما يفعله حتى أطفال المشاجرة!! كل هذا جعل من إيران تستسلم خلال اثني عشر يوماً فقط، ومع كل ما تعرضت له خرجت تتحدث عن الانتصار!! الحرب الحقيقية الوحيدة التي تخاض وعن جدارة وعزيمة وإصرار وتضحية هي حرب المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.
فعلى الرغم من كل ما قامت به إسرائيل من إهلاك الحرث والنسل، ومحو غزة عن كاملها طيلة عامين كاملين لا تفتر لحظة واحدة، ولا تدخر وسيلة واحدة عن محاولة كسر المقاومة والوصول إلى إنهائها أو الوصول إلى أسراها ومخابئها، ومع وقوف العالم كله إلى جانب إسرائيل ضد المقاومة إلا أنها لم تحقق أياً من أهدافها التي أعلنت عنها، بينما تباغتها المقاومة الفلسطينية كل يوم بجديد وتلحق بها أضراراً فادحة رغم ضعف إمكانيات المقاومة وتسليحها وهي عبارة عن مجموعات مسلحة بتسلح بسيط وبدائي لا جيوشاً منظمة وبإمكانيات ضخمة. لقد أوجعت المقاومة الفلسطينية إسرائيل ومحت صورتها التي بنتها قرابة قرن من الزمن في أنها القوة التي لا تقهر، وأنها تحقق الردع والانتصارات بحروب خاطفة سريعة وحاسمة، وهو ما منحته إياها طهران بهذه الحرب لترميم صورتها التي أسقطتها المقاومة الفلسطينية وتعزز صورتها الماضية.
لم تصمد الجيوش العربية منذ عام 1936 إلى اليوم في وجه إسرائيل أكثر من شهر من الزمن، وإيران اثني عشر يوماً فقط، بينما صمدت المقاومة حتى الآن عامين كاملين ليس صمود البقاء وعدم الانكسار وحسب بل صمود المحارب المكافئ الند للند رغم ما دفعه المواطنون، وهم كانوا سيدفعونه على أية حال سواء قامت المقاومة بالطوفان أو لم تقم به؛ فقد أقدمت إسرائيل على محو مناطق ومدن بكاملها وقتَّلت أهلها وشردتهم خارج بلدانهم إلى الوطن العربي أو مخيمات اللجوء، وغزة هي واحدة من هذه المخيمات في الأساس، وكانت إسرائيل على موعد ووعود من العالم بالتوسع الداخلي على حساب الفلسطينيين وتشريد سكان غزة إلى البلاد العربية حتى قبل الطوفان، وما أخر حسم هذه الخطوة إلا حسم المقاومة في الصمود والوقوف ضد إسرائيل رافضة هذا المشروع التهجيري والتصفية للقضية الفلسطينية. لذلك فإن دعم المقاومة في غزة هو دعم للكرامة العربية والصمود العربي في وجه إسرائيل الحديث الذي سيتكشف عن وجه شرس تجاه الأمة العربية لو لم تكبح جماحه المقاومة الفلسطينية وتعيقه عن التوسع في المنطقة العربية.