ثلاثة عقود ونصف من عمر التجمع اليمني للإصلاح تمثل تجربة سياسية فريدة لكيان سياسي لعب دوراً محورياً في المشهد اليمني منذ تأسيسه في الثالث عشر من سبتمبر عام 1990م، ولايزال حتى اليوم رقماً فاعلاً ومتفاعلاً، ورغم هشاشة المشهد السياسي القائم حافظ الإصلاح على حيويته وقدرته على التكيّف والبقاء في بيئة سياسية معقدة ومتقلبة، متكئً على سجل حضوره الجماهيري الواسع، ورصيد متسم بالفاعلية في مختلف مراحل البناء السياسي والتحول الديمقراطي في الجمهورية اليمنية الذي واكب ميلاده عام ميلادها. الارتباط بالتاريخ اليمني المشرق تأسيس التجمع اليمني للإصلاح في مطلع التسعينات ليس حدثاً منقطعاً بل حلقة امتدادية للمشروع الإصلاحي التنويري الذي واكب جميع التحولات الفكرية والسياسية على مدى قرون متتالية في اليمن، واختلفت التسميات والملامح بحسب ظروف كل فترة، وكل جيلٍ من المصلحين استلهم ما سبقه وأضاف عليه، لكن الجوهر بقى متمحوراً حول مقاومة الجهل والاستبداد وبناء وعي الإنسان اليمني تمهيداً لإقامة مجتمع عادل متعلم حر ينفتح على العصر، ويشارك بشكل فاعل في إدارة مجتمعه، وفي طريق النور الممتد هذا برزت شخصيات عابرة للزمان والمكان كأبي محمد الحسن الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري، ومحمد بن إسماعيل الأمير، وصولاً إلى القاضي محمد محمود الزبيري، وأحمد محمد نعمان، وطابور طويل من المصلحين ورواد الفكر التنويري اليمني لايسمح المقام باستعراضهم. كل هؤلاء شكّلوا مشاعلاً للنور وواجهوا المشاريع الهادمة اجتماعياً وسياسياً، وقدموا تصوّرات مختلفة لإصلاح المجتمع والنظام السياسي تنوعت وتعددت بحسب كل مرحلة زمنية، لكن كل دعوة إصلاح أو حركة تجديد كانت تشكِّل امتداداً طبيعياً للحركة الإصلاحية اليمنية التي جعلت الطريق معبداً لظهور كيان يمني خالص تبلور في قالب سياسي حين أعلن التجمع اليمني للإصلاح عن ذاته، وكان هذا العمق والامتداد التاريخي أحد أهم الأسباب التي جعلت هذا الحزب يولد قوياً، وأمدته بالكثير من أسباب الفاعلية والقدرة على إحداث فرق قابل للملاحظة في المشهد السياسي والفكري والاجتماعي في اليمن . هذه البداية المرتبطة بالجذور اليمنية الخالصة والرصينة كانت حصيلتها حزب متين ولد كبيراً، ولم يعش في الهامش السياسي بل ركناً أصيلاً في صناعة التحولات السياسية، ولديه القدرة الفائقة على التكيّف بذكاء بين مختلف الظروف والأوضاع المتقلبة في البلد، وممارسة دور مرن بما يتناسب مع طبيعة المشهد السياسي المتسم بالتحالفات، والعمل ضمن الارضيات المشتركة ، ومثلت هذه العقلية السياسية المتقدمة للإصلاح أحد أهم نقاط القوة التي جعلته رقماً صحيحاً طوال ثلاثة عقود ونصف، ومكنته من الصمود والتأثير، وقدّم فيها نموذجاً متميزاً جدير بالاهتمام والدراسة. صناعة التحالفات والمشاركة فيها يشار إلى التحالفات السياسية أنها اتفاقات أو ترتيبات مؤقتة أو طويلة الأمد تُبرم بين حزبين أو أكثر، أو أي من القوى السياسية العاملة، لتنسيق المواقف أو توحيد الجهود لتحقيق مصالح مشتركة، وقد برع الإصلاح في صناعة التحالفات والمشاركة فيها بفاعلية مع مختلف القوى السياسية المختلفة، وبما تتطلبه طبيعة كل مرحلة سياسية، وخاض مختلف أشكال التحالفات بوعي سياسي ينم عن مرونة وقدرة فائقة على التعاون المشترك، ورفض الجمود والسلبية. تنوعت التحالفات التي خاضها الإصلاح، وشملت التحالفات الانتخابية والبرلمانية وحكومات الإئتلاف والتحالفات النضالية الميدانية، سواء كانت تحالفات مؤقتة مرتبطة بقضايا سياسية بعينها أو تحالفات طويلة الأمد تتطلبها طبيعة المرحلة السياسية، وكل هذا أتاح للحزب دوراً فاعلاً وخبرة واسعة لم تقتصر على المجال السياسي بل شملت الإدارة العامة المرتبطة بالجوانب الخدمية للمؤسسات والوزارات التي أدارها الإصلاحيون . في العام 1993 دخل الإصلاح في تحالف انتخابي مع المؤتمر ثم شارك في حكومة إئتلافية ثلاثية (مؤتمر– إصلاح– اشتراكي)، ثم ثنائية (مؤتمر– إصلاح) بعد 1994، وفي العام 1997غادر الحكومة، وبدأ العمل السياسي من موقعه الجديد في صف المعارضة التي كانت تعاني وقتها من الضعف والتشتت، فكان جل اهتمامه الخروج من هذه الحالة، واتجه لخوض حوارات في إطار الصف المعارض لتوحيد الجهود والخطوات وايجاد تقارب سياسي مهدف، وخلال الفترة (2002–2011) شهدت اليمن أهم تحالف سياسي كان الإصلاح في مقدمته وأهم الداعين اليه، وتشكّل بموجبه "اللقاء المشترك" والذي ضم إلى جانب الإصلاح الحزب الاشتراكي، والتنظيم الناصري، وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية، وحزب البعث، ومثل هذا التحالف سابقة ليس على المستوى المحلي فقط، فالديمقراطيات الناشئة في المنطقة العربية لم يمر عليها هذا المشهد مطلقاً، وكانت هذه الخطوة نموذج مميّز للتعايش السياسي بين القوى السياسية المختلفة، وأضافت للإصلاح إمكانات وخبرات في التواصل والعمل السياسي المشترك المتسم بالقوة والتأثير. خاض الإصلاح في ظل وجوده في اللقاء المشترك حوارات سياسية وجولات انتخابية، وكانت الانتخابات الرئاسية 2006 أبرز محطاتها، وهو ما عزز الإمكانيات السياسية للحزب، وكما أثبت الإصلاح فاعليته أثناء تواجده في الائتلاف الحكومي وأفرز نموذج إداري وخدمي متميّز في الوزرات والمؤسسات الخدمية التي تولاها، أثبت كذلك خلال مرحلة العمل في اللقاء المشترك التزاماً سياسياً وقدرة فائقة في الخطاب التكيّفي والعمل المشترك، والالتزام بالاتفاقات والتفاهمات البينية، والتحرك وفق خط سير توافقي. الإصلاح ومنهج التغيير السلمي في العام 2011 اختار الإصلاح الوقوف في صف التغيير السلمي، وشكل بالإضافة إلى رفاقه في اللقاء المشترك حاضنة سياسية للفعل الثوري الشبابي، وشارك بفعالية في حوارات وتحولات نقل السلطة بطريقة سلمية وسلسة، باعتبار أنّ خيار النضال السلمي كان أحد الثوابت التي اعتمدها الإصلاح ضمن منهجه لنيل الحقوق والحريات، فكانت النتيجة أنه تعامل مع المبادرة الخليجية بإيجابية وانفتاح سياسي، كونها تفي بمتطلبات تلك المرحلة، وتمثل حرص الإقليم على تظل اليمن مستقرة، وأضافت هذه الخطوة بُعداً اقليمياً للإصلاح، ومثلت نقلة نوعية في العمل السياسي وإمكانية صناعة التحولات بنهج سلمي، يجنب الوطن الانزلاق في الفوضى والصراع. لاحقاً عاد الإصلاح إلى العمل التشاركي عبر "حكومة الوفاق"، التي ضمت القوى السياسية مجتمعة في تلك الفترة، وندب أعضائه وأنصاره للمشاركة في تطبيع الأوضاع وبناء القدرات، ومواكبة التحول السياسي بتحول اقتصادي وتعليمي وخدمي، وشارك في مؤتمر الحوار بقائمة من القدرات والخبراء من مختلف الفئات وفي جميع التخصصات، والذين كان لهم دور بارز في الخروج برؤية مشتركة وحلول واقعية لكل القضايات والأفكار التي طرحت على طاولة المؤتمر. لاعب قوي في مرحلة خطيرة في العام 2015 انقلبت جماعة الحوثي على الدولة ونهبت وصادرت إمكانياتها، وهو ما قضى تماماً على المشهد السياسي القائم آنذاك، وسيطرت حالة الصدمة على الجميع، وتوزعت الولاءات والتجاذبات، لكن ديناميكية الإصلاح فرضت عليه التحرك السياسي ومحاولة الخروج بالوطن من هذه "الورطة" التي فتحت باباً للتشظي والصراع، وهو ما كان يحاول الاصلاح تجنيب البلاد منه، وفشلت كل جهوده أمام تعنت الجماعة الانقلابية واصرارها على المضي في انقلابها المشؤوم. كحزب وطني خالص اختار الإصلاح الاصطفاف مع الشرعية ورفض الانقلاب وكل ما ترتب عليه، وحتى اليوم لم يبارح هذا الموقف الشجاع، والذي أضاف إليه ميزة جديدة تضاف إلى نقاط قوته التي لازمته منذ ولادته، وتمثّلت في تمسكه بالقيم والمبادئ الوطنية، وأهمها التبادل السلمي للسلطة، وحق الشعب وقواه السياسية في المشاركة في إدارة الوطن، وفق محددات الديمقراطية النزيهة، وخلال هذه الفترة بدأت مرحلة جديدة من العمل السياسي تتسم بالمخاطرة، والضبابية، وتغيّر اللاعبين، لكن الحنكة السياسية للحزب كانت حاضرة، ومثلت أحد روافع النضال الوطني لاستعادة الجمهورية وعاصمتها المختطفة. في هذه المرحلة الصعبة خاض الإصلاح تحالفات سياسية جديدة تتركز كلها في مسار دعم استعادة الشرعية واسقاط الانقلاب، ومثّل مؤتمر الرياض بنسختيه أحد أهم محطات هذه المرحلة، وكما اختار الإصلاح سابقاً دعم الرئيس التوافقي بعد نقل السلطة، وضع يده بيد المجلس الرئاسي الذي تشكل في 2022، كتأكيد قوي على موقفه الثابت في رفض الانقلاب وتوحيد الجهود والإمكانات لاستعادة الوطن من أيدي الانقلابيين، ولازال الإصلاح حتى اليوم ثابتاً في موقفه، ويحشد أعضائه وأنصاره لممارسة هذا الدور الوطني الذي يمثّل مصدر فخر واعتزاز لمن تشرّف في المشاركة فيه ودعمه. الإصلاح والثوابت الوطنية في كل المحطات والمراحل التي صنعها أو شارك فيها الإصلاح كانت الثوابت الوطنية معياراً يحكم قراراته وتوجهاته، وهو ما شكّل للحزب قبولاً شعبياً، وبنى له قاعدة جماهيرية واسعة منحته القدرة ليكون رقماً صعباً في المعادلة السياسية يصعب تجاوزه أو تهميشه، وطوال تاريخه السياسي اتخذ الحزب قراراته المصيرية والمرحلية بما يتناسب مع المصلحة الوطنية العليا، مغلّباً لها على مصلحة الحزب وأعضائه الذين تفهّموا هذا المسلك وساروا عليه وفي رحابه. اختار الإصلاح موقعه بصف الوطن وفوّت الفرصة على كل محاولات تقليل دوره أو إخراجه من الحياة السياسية، وكلها بائت بالفشل وربما ارتدت على أصحابها، وخرج من كل جولة صراع منتصراً مضيفاً لرصيده السياسي والوطني المزيد من المكتسبات، والتي يسخّرها دوماً لخدمة الوطن وضمان أمنه واستقراره، وظل في كل مرحلة يوجه أعضائه ومناصريه للمشاركة بفاعلية في بناء الوطن، ويحثهم على تقديم أجمل ما لديهم من خبرات وإبداعات لإضافة قيمة نوعية ترتقي بالمجتمع اليمني، وتنمّي قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهذه نقطة قوة نجح الحزب في تأصيلها. بالإضافة الى الخبرة السياسية والقاعدة الجماهيرية الصلبة والواسعة شكّل الالتزام بالثوابت الوطنية دعماً لمسيرة الاصلاح المشرقة على مدى 35 عاماً، والتي أكدت أن الحزب وجد لأجل الوطن وليس العكس، وتنوعت واجباته الوطنية التي أنجزها بحسب المراحل المختلفة، وبقدر الغُرم الذي تحمله ولازال لكنه بالمقابل صنع نموذج اتسم بالقوة والقدرة على البقاء والتكيّف، والمحافظة على الحضور السياسي سواء شعبياً أو نخبوياً. يمتلك الإصلاح كل مقومات التواجد السياسي والشعبي الفاعل، ومثلت العقود الماضية من عمره مدخلاً لخبرة متراكة ليس من الهين أهمالها أو القفز عليها، وهي تؤهله ليكون فاعلاً أساسياً في بناء وتشكيل مستقبل اليمن واليمنيين، والمشاركة الفاعلة في صناعة وإدارة التحولات السياسية التي تفرزها الأحداث بين فينة وأخرى، كما يمثل الحزب قوة وطنية مؤهلة للاعتماد عليها كرافعة سياسية لاعادة بناء الدولة وحشد واستنفار الجهود الشعبية لدعم هذا المنحى، والمساهمة في بناء غد أفضل يرتكز على المواطنة المتساوية القائمة على الحقوق والواجبات دون تمييز ولا فرز ولا تفضيل. في صباح الثالث عشر من سبتمبر/أيلول 1990م وُلد التجمع اليمني للإصلاح كبيراً، وصنع لنفسه شخصيته الفريدة متحرراً من التبعيّات والقيود من أي نوع وتحت أي مبرر، وتحمّل مهامه الوطنية منذ وقت مبكر، ونجح في أن يضل لاعباً فاعلاً طوال مسيرته السياسية، وبهذا الرصيد المشرق يفخر أعضائه ومحبيه وهم يستعرضون ثلاثة عقود ونصف من التواجد القوي الملتزم بالقيم والمبادئ الوطنية، ومحددات العمل السياسي المدني، الذي لاغنى عنه لصناعة بلدٍ أمنٍ ومستقر .