في خطوة وصفت بأنها الأخطر منذ انقلابها على مؤسسات الدولة، أصدرت مليشيات الحوثي الإرهابية عبر مجلس القضاء الأعلى الخاضع لسيطرتها عبر هيئة التفتيش القضائي، قرارا بتوزيع خريجي دورة شرعية على عدد من المحاكم تمهيدا لتعيينهم قضاة. القرار الذي شمل أكثر من ثمانين خريجا من دورة أقامتها الجماعة في وقت سابق لما تسميه "تأهيل علماء الشريعة"، أثار ردود فعل واسعة في الأوساط الحقوقية والقانونية، بوصفه محاولة منظمة لإعادة تشكيل السلطة القضائية وفق عقيدة الجماعة.
تجريف منهجي لبنية القضاء
بحسب المركز الأمريكي للعدالة (ACJ)، فإن هذا القرار يمثل تجريفا ممنهجا لبنية القضاء اليمني، مؤكدا أن الجماعة الحوثية تسعى لتحويل المحاكم إلى منصات تابعة لولي الفقيه، بعد أن أفرغت الجهاز القضائي من معناه المؤسسي، واستبدلت الكفاءة القانونية بالولاء العقائدي.
ويضيف المركز في بيانه أن الخطوة تأتي في إطار سياسة حوثية متواصلة لطمس معالم الدولة المدنية، بعد أن تم تعطيل مجلس القضاء الشرعي السابق، واستبداله بآخر تابع للجماعة منذ انقلاب 2014م.
المدير التنفيذي للمركز، المحامي عبد الرحمن برمان، حذر من خطورة ما يحدث، قائلا إن الحوثيين ينفذون عملية تجريف شاملة لكل ما تبقى من ملامح الدولة، بدءا من الجيش والأمن والإعلام، وصولا إلى القضاء".
وأضاف برمان في تصريح خاص ل"الصحوة نت:"، "القضاء أحد أعمدة الدولة الثلاثة، والقضاء عليه يعني القضاء على الدولة نفسها، وأشار إلى أن التعيينات الجديدة تتم وفق تعديلات حوثية على قانون السلطة القضائية، تمنح رئيس ما يسمى المجلس السياسي للجماعة حق تعيين من تسميهم ب"الناس الصالحين"، دون الرجوع إلى معايير الكفاءة أو التخصص القانوني.
وأوضح أن ما جرى هو توزيع أول دفعة من خريجي الدورة، وهناك نحو 370 آخرين قيد التأهيل في مسار مشابه، ما يعني أن القضاء اليمني يمر بمرحلة استبدال ممنهجة".
يرى مراقبون قانونيون أن هذه الخطوة ليست مجرد مخالفة إدارية، بل جزء من مشروع أيديولوجي متكامل يسعى إلى إعادة تعريف العدالة نفسها بما يخدم الفكر الحوثي، فمنذ سيطرة الجماعة على صنعاء، تم إقصاء المئات من القضاة وأعضاء النيابة ممن لم يبدوا ولاءً للحوثيين، واستبدالهم بآخرين موالين.
في عام 2022م، أقرت المليشيا تعديلا على قانون السلطة القضائية، منح رئيس ما يسمى المجلس السياسي سلطة تعيين القضاة دون الرجوع إلى مجلس القضاء الأعلى أو التفتيش القضائي — وهو ما اعتبرته نقابة المحامين اليمنيين "انقلابًا على القانون والدستور".
القضاء بين العدالة والمعتقد
تحليل مضمون قرارات الجماعة خلال السنوات الماضية يكشف عن تحول جوهري في وظيفة القضاء من أداة لتحقيق العدالة إلى وسيلة لتثبيت السلطة العقائدية، فقد تم إنشاء محاكم متخصصة في أمن الدولة تستخدم لمحاكمة الصحفيين والسياسيين والمعتقلين تعسفا، بينما تم تعطيل معظم المحاكم المدنية والجنائية.
ويرى خبراء أن هذا التوجه يهدف إلى خلق بيئة قانونية تمنح الشرعية لممارسات القمع والمصادرة، عبر واجهة قضائية محسوبة على الجماعة".
في السياق الأوسع، ينظر إلى هذه التحركات على أنها رسالة سياسية موجهة للمجتمع الدولي مفادها أن الجماعة تمضي في بناء دولتها الخاصة، بغض النظر عن مسار السلام أو تسوية الأزمة اليمنية.
ويؤكد برمان أن هذه الخطوات تنسف أي حديث عن نية جادة للسلام، مضيفا أن الحوثيين لا يفاوضون على تسوية وطنية، بل على تثبيت أمر واقع فرضوه بقوة السلاح والعقيدة".
بينما تستمر الجماعة في إحكام قبضتها على مفاصل القضاء، يبدو أن العدالة اليمنية تسير نحو نقطة اللا عودة، فالقاضي القادم من دورة شرعية حوثية، لا ينتظر منه أن يحكم بالقانون، بل بالنص المذهبي، لتتحول ساحات العدالة إلى فصول جديدة من تأجيج الصراع، وبعيدا عن الإنصاف والعدل، وإذا ما استمر هذا النهج، فإن اليمن قد يفقد آخر مؤسساته المدنية وهي المؤسسة القضائية وتأسيس مؤسسة قضائية طائفية.