في كل مرة يُعاد فيها فتح ملف المحتجزين والمختطفين، تعود معه أسئلة الثقة والجدية والقدرة على تحويل التفاهمات المعلنة إلى واقع إنساني ملموس في ظل تجارب مريرة دفع ثمنها هؤلاء المغيبون في غياهب المعتقلات والسجون ومن خلفهم أهاليهم الذين يعيشون قلقاً يومياً على مصير أحبائهم. رغم التفاؤل الحذر الذي أحدثته التفاهمات الأولية بين الحكومة اليمنية ومليشيات الحوثي حول تبادل المختطفين والمحتجزين، فإن تجارب السنوات الماضية تجعل القلق أكبر، خصوصاً وأن الخيبة كانت تأتي عند الشروع في التنفيذ حيث تحضر "تفاصيل الشيطان" وعادة ما تتوقف الجهود عند هذه النقطة.
الجرح الإنساني واستخدام الملف كورقة ضغط
هذا الإعلان أعاد هذا الملف إلى الواجهة بقوة، ليس فقط بسبب الأرقام الكبيرة المتداولة، بل لأن الجرح الإنساني الذي يمثله هذا الملف ظل مفتوحًا لسنوات، واستخدم مرارًا كورقة تفاوض وضغط سياسي، أكثر من كونه قضية حقوقية وإنسانية خالصة.
وحتى تكون الأمور واضحة، فإن ما تم التوصل إليه هو عبارة عن تفاهمات أولية ومبدئية تليها مسارات معقّدة من تبادل القوائم، والتدقيق في الأسماء، والتحقق من المصير، والاتفاق على آليات التنفيذ والضمانات، وهذا هو التوصيف الواقعي بعيداً عن التصريحات المتفائلة والأماني المشروعة.
التحديات في التنفيذ وأهمية دور الوسطاء
ولكي يتم تحويل هذه التفاهمات إلى خطوات عملية حقيقية، فلابد من تجاوز نهج التنفيذ في الاتفاقات السابقة والذي كان يصطدم بالمماطلة أو التلاعب بالقوائم أو إسقاط أسماء بعينها أو إدراج أسماء وهمية أو إعادة توظيف الملف ضمن حسابات ميدانية وسياسية، وهنا يتعين على الأممالمتحدة والدول الراعية للتفاهمات استخدام نفوذها لإنجاح هذه الصفقة.
إذن، المسألة ليست في الإعلان ذاته، بل في ما سيليه من خطوات، وفي قدرة الأطراف على الالتزام بما تم التوقيع عليه، لا بما تم التصريح به إعلاميًا، ويكفي أن نشير هنا للأبعاد الإنسانية للاتفاق التي تظهر بوضوح في شهادات عائلات المختطفين، وعلى رأسها أسرة المناضل الوطني محمد قحطان، الذي تحوّل اسمه إلى رمز لقضية الإخفاء القسري في اليمن.
ففي تصريحات نشرها موقع "الجزيرة نت"، أعربت ابنته فاطمة عن الأمل الذي يُبعث مع كل خبر عن قرب الإفراج والخوف المتراكم من تكرار سيناريوهات الخرق والتعطيل، وهذا الشعور لا يخص عائلة قحطان وحدها، بل آلاف الأسر التي تعيش منذ سنوات على أخبار غير مكتملة، ووعود مؤجلة، ومصائر معلقة.
ومما لا شك فيه أن إدراج اسم محمد قحطان ضمن قائمة المشمولين بالمرحلة الأولى، بحسب ما صرح به أعضاء في الوفد الحكومي المفاوض، يحمل دلالات سياسية وإنسانية في آن واحد، فمن جهة هو اختبار مباشر لجدية الحوثيين في التعاطي مع ملف الإخفاء القسري، ومن جهة أخرى، هو معيار حقيقي لصدقية الاتفاق برمته، ذلك أن الإفراج عن قحطان لا يمكن التعامل معه كبند عادي ضمن صفقة تبادل أوسع، بل كقضية مفصلية لأن إنكار مصيره طوال سنوات كان أحد أكثر مظاهر التعنت والانتهاك وضوحًا.
وإذا ما عدنا لتفاصيل التفاهمات، سنجد أنها تدعو للحذر والتعامل بواقعية مع ما تم إعلانه في مسقط، فعلى الرغم إن الاتفاق يقوم على قاعدة "الكل مقابل الكل"، إلا أنه قُسّم عمليًا إلى ثلاث مراحل، تبدأ بمرحلة أولى تشمل 1700 من معتقلي الحوثيين مقابل 1200 من محتجزي الشرعية، تليها مرحلة تدقيق ميداني عبر لجنة مشتركة، ثم مرحلة ثالثة تتعلق بملف الجثامين.
هذا التقسيم بحد ذاته يؤكد أن ما نحن أمامه ليس صفقة واحدة مغلقة، بل مسار تفاوضي متدرج، قابل للتعطيل أو الانزلاق في أي مرحلة من مراحله، وبالتالي فإن الإشكال الجوهري، الذي يجب عدم القفز عليه، يتمثل في تبادل القوائم، وهذه النقطة كانت غالباً بيت الداء في جميع جولات التفاوض السابقة.
الرهان الحقيقي: التنفيذ وبناء الثقة
ومن منطلق الواقعية السياسية والحرص على عدم بيع الوهم لأسر المختطفين والمحتجزين، ينبغي التذكير أن استخدام توصيف "انتصار إنساني" رغم وجاهته من حيث المبدأ، لا يجب أن يتحوّل إلى غطاء لتعويم سلوكيات سابقة ذلك أن الانتصار الإنساني الحقيقي لا يتحقق بالتصريحات، بل بإغلاق هذا الملف بشكل كامل، وبما يشمل جميع المحتجزين والمخفيين قسرًا دون استثناء أو انتقائية.
في السياق الأوسع، لا يمكن فصل ملف الأسرى عن المشهد السياسي العام؛ فالتقدم فيه أو التعثر سيكون له أثر مباشر على مناخ الثقة وعلى فرص أي مسار سياسي لاحق وإذا كان هذا الملف، بطبيعته الإنسانية هو الأسهل نظريًا، فإن الفشل فيه سيبعث برسالة سلبية مفادها أن بقية الملفات أعقد وأبعد عن الحل.
وبناءً عليه، فإن الرهان الحقيقي لا يجب أن يكون على حسن النوايا المعلنة، بل على آليات التنفيذ ودور الوسطاء الدوليين وفي مقدمتهم مكتب المبعوث الأممي واللجنة الدولية للصليب الأحمر، في فرض معايير واضحة للشفافية، والتدقيق، والمتابعة. كما أن بقاء ملف الإخفاء القسري حاضرًا في الخطاب الإعلامي والسياسي وعدم السماح بتذويبه داخل صفقات عامة، يمثل شرطًا أخلاقيًا وسياسيًا لا غنى عنه.
وفي ختام هذا الملف الإنساني والسياسي المعقد، يبقى السؤال الأكبر حول قدرة الأطراف كافة على تحويل التفاهمات الأولية إلى واقع ملموس على الأرض، وإن نجاح هذه الصفقة لن يقاس بعدد من يعود إلى أسرته فحسب، بل بمدى قدرة العملية على ترسيخ الثقة بين الأطراف المختلفة وإعادة بناء الحد الأدنى من الشرعية والمصداقية في التعاطي مع الملفات الإنسانية والسياسية الأخرى.