كان الكتاب صديقا أثيرا يزين بحضوره المجالس والأسمار، ويحتشد من حوله الناس، كأنما هو ملاك هبط دنيا الناس بأسرار الحكمة، وخفايا المعرفة، وكان له مقام محمود بين عامة الناس وخاصتهم، يتناقل فيما بينهم عظيما مبجلا تهش لمقدمه القلوب وتختلج لفراقه الأرواح. والمتأمل في تاريخ الفكر العربي يدرك -دون إمعان نظر- تلك المكانة التي كان الكتاب يحتلها، والكاريزما التي يمتاز بها، والتي جعلت عددا من الملوك يخرجون لاستقباله تصحبهم الطبول والرايات، وعروض الخيل، وكأنما هم في استقبال عظيم من العظماء، وتبعا لهذه المكانة فقد أسهم الكتاب في تشكيل ملامح الفكر في مختلف مراحله، ومثل حجر الزاوية في كل الوثبات الحضارية التي وجدت أمتنا فيها نفسها أداة إبداع ومحضن تميز.
وجاء زمان أغبر، أقصي فيه الكتاب بعيدا عن دائرة الاهتمام، واستأثرت أدوات اللهو واللعب بمكانته، وقنع الناس بما هو أدنى من وسائل قتل الوقت، وتشعبت سبل الحياة، وتعقدت مصادرها، فأصبح الناس مسكونين بالهم الاقتصادي، وأفرزت ثقافة الاستهلاك ذهنية مادية بحتة لا تتسع إلا لفنون التسوق وضروب الاستحواذ، فتحول الكتاب من مكون هام في بناء الأسرة والمجتمع إلى كمالية ساذجة تحتل المكانة العشرين في قائمة الكماليات أو.. أو أبعد من ذلك.
وفي هذا الواقع الثقيل ظهرت مخايل الجهل وملامح الأمية الثقافية عابسة كالحة مكفهرة، واشرأبت نذر السقوط الحضاري، فسعى المخلصون في خندق الدفاع عن الأمة إلى معرفة الأدواء التي رشح عنها هذا الواقع البائس، فكان العزوف القرائي واحدا من أهم أسباب هذه الانتكاسة، وقد تنوعت التناولات البحثية التي حاولت ما وسعها الجهد في سبر أغوار هذه الإشكالية، وتوصلت إلى خلاصة مفادها أن الكسل الذهني هو أم المصائب وراء طلاق الكتاب، واتفقت جميعها على أن وراء هذا الكسل أسباب ثلاثة: يأتي في مقدمتها السبب التربوي في عدم وجود القدوة القرائية داخل الأسرة، بسبب انشغال الأبوين، مما جعل وسائل الاتصال العصرية كالفضائيات والأنترنت تحتل مكانة الكتاب على ما هي عليه من أخطاء وخطايا.
أما السبب الاقتصادي، فهو لم يكتف بموجة الغلاء التي قصمت الظهور، ولكنه عمد عبر الإعلانات التجارية إلى إيجاد هوة كبيرة بين دخول الناس والمتطلبات التي تلح عليها هذه الإعلانات، مما فتح الشهية للشراء الميت الذي يخرج عن نطاق المنفعة الحقيقية للأسرة إلى نطاق من التباهي والرياء الاجتماعي، فأثقلت كواهل الأسر بالديون، وإنك حين تنظر في ذلك كله باحثا عن الكتاب لا تجد له موضع قدم.
أما العامل السياسي، وهو أصل الداء، فإنه يتمثل في العداء المستحكم بين أنظمة الحكم على اختلاف مشاربها في الوطن العربي، وبين الكتاب، إذ أنها تعتبره خرابا مستعجلا، أو الفأر الذي سيهدم السد، ومن ثم شنت حربا غير معلنة عليه ، وترصدته في كل مسلك، ابتداء من الصفوف الدراسية مرورا بالمراحل الجامعة، وانتهاء بتلك المكتبات العامة التي عًطلت عن وظيفتها، وأصبحت مجرد ديكور شكلي متمم لصورة الزيف العامة التي تخللت كل مظاهر الحياة، شرا مستطيرا، وفسادا منتشرا.
وفي هذا الإطار أفرغت المؤسسات الثقافية الرسمية كل برامجها الثقافية من محتواها القيمي والمعرفي، حتى أصبح مصطلح الثقافة في كثير من البلدان العربية مرادفا للرقص وللأغاني الهابطة، ولتلك الفعالات التافهة التي فقدت بوصلتها وأصبحت تكرر نفسها بشكل سمج وغثائي.
تلك عوامل ثلاثة أدت إلى نأي الكتاب عن حياة الناس، وأحلت محله وسائط أخرى شكلت مغايرا معرفيا، يسعى بإمكانياته الهائلة إلى تسطيح حياة الناس، وتقزيم المعرفة لديهم، وفي هذا الصدد ظهرت فضائح معرفية مضحكة مبكية.
ولأن ثورات الربيع العربي جاءت لتضع حدا لذلك التدهور العام الذي يشهده المواطن العربي في كل مجالات حياته ومنها المجال المعرفي الذي يمثل الكتاب أهم مفرداته، فقد لوحظ انتعاش لسوق الكتاب الجاد مع هبوب رياح هذه الثورات إذ ذكرت وسائل الإعلام على سبيل المثال مدى إقبال الناس على الكتب الفكرية التي تناقش الاستبداد والفساد السياسي، مثل كتاب طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي وكتاب الإسلام والاستبداد السياسي للشيخ محمد الغزالي، وغيرها من الكتب التي حققت مبيعات هائلة في سوق الكتب خلال الأشهر القليلة المنصرمة.
واليوم يأتي معرض صنعاء الدولي الثامن والعشرين في أجواء جديدة تستدعي الوعي والمعرفة كشرط لحصول التغيير الحضاري الذي تنشده ثورة الشباب السلمية مثل في ذلك مثل مثيلاتها من الثورات العربية، ويتعزز هذا الشعور في ذهن أي زائر لهذا المعرض حين يجد ازدحام الناس وإقبالهم على شراء الكتاب رغم الظروف الاقتصادية المعقدة، ورغم ما شاب هذا المعرض من نقائص كبيرة تشتكي منها كثير من الدور المشاركة، غير أن مثل هذه المرارات ستجد طريقها إلى الحل متى ما عاد الكتاب إلى سابق عهده كخير جليس في الزمان.
فئران المكتبات الخاصة
كان أصحاب المكتبات الخاصة قبل عقود من الزمن كثيرا ما يشكون من تلك الحرب الشعواء التي يشنها الفئران والأرضة على مكتباتهم، إذ تجد هذه القوارض في هذه المكتبات ولائم عامرة بكل ما لذ وطاب من صفحات الكتب ذات المذاقات المختلفة، وقد تحدث غير واحد من الأدباء عما وقع عليهم من حيف وظلم عندما عثروا على كتب أثيرة لهم وقد أصبحت صفحات نخرة أو بقايا رماد تمثل حادثة سطو رهيبة تمت بخفاء شديد.
وقد أفلح الإنسان في ابتكار وسائل واقية، أفلحت إلى حد كبير في وضع حد لهذا التعدي الصارخ، واستطاعت عدد من المكتبات الخاصة أن تتخلص من هذه الإشكالية إلى الأبد، غير أن بلوى أخرى كانت بالمرصاد وبشكل أشد وأعتا، إذ ظهرت فئران جديدة، تأتي هذه المكتبات بشكل معلن، وتمد أيديها إليها بشكل ظاهر، ثم تأخذ منها ما أرادت بنية الاستعارة التي تطول وتطول إلى أجل غير مسمى.
ويصير هذا الأمر أشد إيلاما مع الكتب ذات الأجزاء المتعددة، حين تستعار أجزاء منها، فلا تعود، وتصبح مثل هذه الكتب غصة في حلق مالكها يعيش مرارة فقدها كلما نظر إلى مكتبته بعينين حائرتين وبقلب نادم على ما فرط في جنبها، يوم أن رضي بإعارتها، متناسيا قول الشاعر: ومحبوبي من الدنيا كتابي .. فهل أبصرت محبوبا يُعارُ
وتختتم السبت القادم فعاليات معرض صنعاء الدولي الثامن والعشرين للكتاب الذي أقيم في الفترة من 25 سبتمبر وحتى 6 أكتوبر من هذا العام.
المعرض الذي تنظمه الهيئة العامة للكتاب وتصاحبه عدد من الفعاليات الأدبية والفكرية سيستمر نحو عشرة أيام؛ تشارك فيه نحو مائتي دار نشر محلية وعربية وأجنبية ووكلائها في اليمن.
الجدير ذكره أن معرض صنعاء للكتاب قد توقف العام الماضي بسبب أحداث الثورة الشعبية، مما جعل إقامته هذا العام حدثا هاما على الصعيد الثقافي المحلي.