لم يشطح الأديب الفرنسي فولتير كثيرا حين سئل: من الذين سيقودون العالم؟ فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرؤون، لأنَّ فيلسوفا كبيرا مثله يدرك مدى حاجة البشرية للقراءة، كزاد يومي، يصلح ما اعوج من وجودها، ويعمل على ترشيد سيرها نحو النضج الإنساني، ويؤدي إلى تكوين الوعي في أرقى درجاته لدى الأمم حكاما ومحكومين. ولقد كان للإسلام دوره الكبير في التشجيع على القراءة، فكانت (اقرأ) فاتحة الرسالة المحمدية، في إشارة إلى أهمية المعرفة في وجود الأمة، ولقد كان لهذه الكلمة حضورها الفاعل على مدى تاريخ طويل من حياة هذه الأمة، فكانت القراءة زينة المجالس، ومضمار العلماء، وشارة الاستقامة، ومصدر الإبداع، وكانت بذلك ملازمة للإنسان العربي، حتى وهو في أحرج أوقاته، فقد ذكرت إحدى المصادر أن عالما جليلا كان شغوفا بالقراءة حد الوله، وكان إذا دخل الحمام أمر من يقرأ له من الخارج بصوت مسموع... غير أن هذا الرشد المعرفي انطوى من حياة العربي مثله مثل غيره من تلك القيم الجميلة التي كانت عنوان وجوده، وقوام شخصيته، وأصبح إنسان اليوم بعيدا عن القراءة مغيبا عن الوعي، يستهلكه اليومي والعابر، فلا يكاد يصحو من هم معيشي إلا ويصاب بهموم تتفقده بوصلة السير، ووجهة الرشاد. وبنظرة سريعة في التقارير التي تشير إلى مدى التراجع القرائي في الوطن العربي يقف المتأمل على فداحة المصيبة وعمق الأزمة، وعلى مدى التراجع الحضاري الذي نعيشه خارج أسوار الإنسانية حالمين بزمن جميل قد لا يأتي البتة. ففي استطلاع صدر عن اتحاد كتاب الإنترنت العرب، ونشر مؤخرا على شبكة الإنترنت تشير الإحصائيات إلى أن الوقت الذي يستغرقه المواطن العربي في القراءة لا يتعدى الدقيقتين في العام بينما تصل في أوربا إلى ست وثلاثون ساعة للفرد في العام. و أن نصيب المواطن العربي الواحد من كمية الكتب المطبوعة في عموم البلاد العربية أقل من ورقة من الكتاب سنويا مقابل 518 كتابا في أوروبا و 212 في أمريكا للمواطن الواحد. وفي استطلاع آخر تشير الإحصائيات الأكثر تفاؤلا إلى أن معدل ما يخصّصه المواطن العربي للقراءة سنويا هو عشر دقائق وأن مجمل الكتب التي تصدر في مختلف أرجاء الوطن العربي لا تبلغ الخمسة آلاف كتاب في السنة الواحدة". بينما نجد أن عدد الكتب الصادرة في أوريا يصل إلى خمسين ألفا وفي أمريكا وكندا يصل عدد الكتب الصادرة سنويا إلى مائة وخمسون ألفا. ووفق إحصائية نشرت في بداية العام 2010 نرى أن معدل قراءة العربي "كلمة" في الأسبوع. وتهبط مدّة القراءة السنوية إلى سيع أو ستّ دقائق وفق ما ورد في جريدة لبنانية وأن 14% يطالعون الكتب وكل 300 ألف عربي يقرؤون كتابا واحدا. وللمقارنة نقول إنّ معدل زمن القراءة لدى الإنسان الغربي يصل إلى ست وثلاثين ساعة سنويا، أي بمعدل 360 ضعفا لما يقرؤه العربي. وهناك إحصائيات أخرى تشير إلى أن المعدل العالمي السنوي للقراءة لدى الفرد الواحد في فرنسا يصل إلى أربعة كتب وفي أمريكا إلى أحد عشر كتابا وفي انجلترا سبعة كتب أما في العالم العربي فرُبع صفحة للفرد. أضف إلى ذلك أن الثقافة المعلوماتية لدى الأغلبية الساحقة من الطلبة العرب غير بعيدة عن الصفر. كما تثير التقارير السنوية الخاصة بالتنمية البشرية الصادرة عن الأممالمتحدة الرعب والهمّ والإحباطَ في مجال القراءة وحركة النشر في العالم العربي. والنتيجة ذاتها تتجلّى في استطلاعات مستويات الجامعات في العالم حيث مكان الجامعات العربية دائما في ذيل القائمة الطويلة. وفي أسبانيا أندلس الأمس يوازي عدد الكتب المطبوعة سنويا ما طبعه العربُ منذ عهد الخليفة المأمون الذي قُتل عام 813م وحتى يوم الناس هذا، أما في فرنسا فإنَّ ما تستهلكه دار النشر الفرنسية (باليمار) يفوق ما تستهلكه مطابعُ العرب مجتمعة من المحيط إلى الخليج. وفي ذات السياق يشار إلى أن اللغة العربية تأتي في المرتبة السادسة من حيث عددُ الناطقين بها، بعد الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية. ومن اللافت للانتباه أن عدد الكتب التي تُرجمت إلى العربية خلال ثلاثة عقود، 1970-2000، وصل إلى 6881 كتابا وهذا ما يعادل ما نُقل إلى اللغة الليتوانية التي يبلغ عدد الناطقين بها قرابة أربعة ملايين انسان فقط! وكان تقرير الأممالمتحدة قد كشف عن وضع تعيس ومزر للترجمة إلى العربية، إذ لوحظ أن العرب لا يترجمون خُمس ما يترجمه اليونانيون. زد إلى ذلك أن الترجمة في كثير من الأحيان سيّئةٌ مبنى ومعنىً لتجاريتها وقلة مهنيتها، ومن المعروف أن معظم الأدباء والكتّاب العرب ينشرون نتاجهم دون مراجعة أو تنقيح أحد لا من طرفهم ولا من جانب مدقق لغوي يعمل في دار النشر ولذلك فنسبة الأخطاء والهفوات الطباعية واللغوية المختلفة عالية هي الأكبر نسبة بين كل كتب العالم. أما في الكيان المحتل الذي نشتمه ليلا ونهارا فيصل معدل ما يقرأه اليهودي الإسرائيلي سنويا إلى اثني عشر كتابا، مقابل ربع ورقة للعربي، كما أن عدد الاختراعات الإسرائيلية سنويا يصل إلى حوالي 500 في حين أن عدد الاختراعات في كافة الدول العربية الاثنتين والعشرين لا يتعدّى خمسة وعشرين اختراعا، وهذا التفوق القرائي لدى اليهود يعتبرونه جزء مهما في المعركة، ففي أواخر الستينيات من القرن العشرين، قال الزعيم الصهيوني بن جوريون لدى اجتماعه مع أعوانه: ما دام العرب لا يقرؤون فما من خطر حقيقي يهدد دولة إسرائيل. ثم أضاف ساخرا: وإذا قرؤوا فلا يفهمون وإذا فهموا فلا يفعلون وعليه فسنبقى نحن المسيطرين المهيمنين في المنطقة رغم قلة عددنا.. ولقد أعادت كثير من البحوث العلمية التي رعتها عدد من الجامعات العربية ظاهرة العزوف القرائي إلى سبب واحد، هو الكسل الذهني الذي تعاضدت ثلاث عوامل على تثبيته، وجعله سمة ملازمة للعربي في الوقت الراهن، فثمة عامل اقتصادي، جعل الهم المعيشي على رأس قائمة اهتمامات الإنسان العربي، بينما يتراجع الكتاب كل عام إلى خانات متأخرة، وثمة عامل تربوي، يتلخص في عدم وجود القدوة القرائية في الأسرة والمجتمع، وثمة عامل سياسي تولت كبره أنظمة القمع التي تمارس التجهيل، واعتبرت الكتاب عدوا حقيقيا، ثم واجهته بكل أشكال الإقصاء والتغييب. ولأن ثورات الربيع العربي جاءت لتحيي كثيرا من الآمال التي أضاعها إنسان هذه البلاد، فإن ثمة إحصائيات اليوم تشير إلى حركة قراءة نشطة يشهدها الوطن العربي، فهذه كتب المفكر الإسلامي مالك بن نبي، وكذا كتب المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي تصبح أكثر الكتب طلبا في العام المنصرم لدى المكتبات ودور النشر، وقد أحصى موقع إلكتروني لتحميل الكتب بصيغة (pdf) عدد مرات التحميل لكتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي فوجدها 31438 مرة، وهو رقم يدعو إلى التفاؤل، صحيح أن تحميل كتاب ما لا يعني حتمية قراءته، لكنها إحصائية مفرحة وكفى!! كما أشارت هذه الإحصائية إلى زيادة الإقبال على شبكة الإنترنت- باعتبارها مصدرا للقراءة- قد زاد عام 2011م خمسة أضعاف عما كان عليه عام 2010م. لقد أعادت ثورات الربيع العربي الاعتبار إلى كثير من القيم الجميلة.. فهل تعيد الاعتبار للقراءة بشكل عام وللكتاب بشكل خاص.. إنه لأمل يستحق المتابعة.