(1) لن نخدع أنفسنا ونقول إن مؤتمر الحوار هو العصا السحرية التي ستحل مشاكل اليمن في غمضة عين.. وأن اليمن بانعقاده سوف ينطلق فورا كالصاروخ في سماء التقدم والنهضة بعد أن يحل المشاكل المتراكمة في كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية والتنموية.. إلخ المجالات التي طالها الإهمال والخراب، وشابها من الأخطاء والاختلالات والفساد الشامل ما يجعل حالة البلاد – والحق أنه واقع مر وتركة ثقيلة تعاني منها كل بلدان الربيع العربي- أشبه بحكاية أحد كتبة الإمام/ يحيى مع الطبيب الأجنبي الماهر.. إذ تقول الحكاية أن تم استقدام طبيب ماهر لمعالجة الإمام، وفي أثناء وجوده في القصر رأى عدد من الحاشية أن يعرضوا أنفسهم عليه ليعاينهم.. فاستجاب الرجل لطلبهم، وراح يفحص كل واحد ويحدد له مرضه: عندك مشكلة في العين.. أنت ستصاب بالفالج.. أنت عندك كذا.. وأنت عندك كذا.. فلما جاء دور كاتب الإمام (وهو من أسرة مطهر وكان نحيفا قد تكالبت عليه الأمراض) وفحصه الطبيب قال له بانزعاج: أنت خراب! ونظن أن مغزى هذه الحكاية يلخص التحدي الكبير الذي تواجهه شعوب الربيع العربي وقواها المتطلعة لإصلاح الأوضاع فيها؛ والتي أقل ما يقال فيها إنها خراب في وسط فوضى لا مثيل لها! لذلك يجب الانتباه لخطورة الأحلام غير الواقعية والنفسيات المتعجلة؛ لكيلا ترتفع التوقعات والأحلام إلى السماء ثم يجد الشعب أن الواقع مختلف عن التوقعات والأماني فيقع من جديد في هاوية اليأس والإحباط التي كان عليها قبل الثورة. ولا شك أن هناك فرقا بين التفاؤل المطلوب وبين الإسراف في الأحلام دون مراعاة التعقيدات التاريخية والنفسية؛ وحتى المؤامرات التي تحاك لإفشال مؤتمر الحوار.. فالتفاؤل مطلوب، وعلى الأغلبية المستفيدة من استقرار الوضع العام في الوطن أن تجعل هذا التفاؤل عامل ضغط شعبي يفهم منه الجميع: أن الشعب لن يسمح بإفشال مؤتمر الحوار، ولن يسمح لأصحاب مشاريع الوهم بأسمائها المتعددة أن تمارس دورها التخريبي داخل المؤتمر أو أن تنقل مؤامراتها من خارجه إلى داخله؛ لأن هذا الحوار فرصة تاريخية يصعب تكرارها بسهولة! [2] ولأن نجاح مؤتمر الحوار؛ ولو بعد شهور من الحوارات الصعبة؛ لن يروق للبعض؛ فإن هؤلاء لن يدخروا جهدا في إفشاله، وتعويق أعماله.. وافتعال الأزمات داخله وخارجه.. وصولا إلى الانسحاب منه تحت أي ذريعة أو مبرر تافه! وليس كل من يقبل الحوار مستعد بسهولة لتطبيق مخرجاته أو تقدير الفرصة التي أتيحت له للتحاور حول ما يراه مشكلة أو خطأ.. فالبعض لديه عقد تاريخية قديمة وعقد نفسية تجعله يظن أنه محور كل شيء.. ولنتأمل في قصة الحوار الذي جرى بين رب العزة والجلال وبين إبليس يعد رفض هذا الأخير تنفيذ أمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام.. فقد حجزه الكبر عن إطاعة أمر الخالق، وراح يجادل ويهدد بإضلال ذرية آدم لإثبات أنه مصيب في عصيان الأمر الإلهي.. ولا شك أنه لولا مرض الكبر والغرور في نفسية إبليس لما عاند وتكبر في بدهيات، لما أصر على موقفه ذاك! ومن الواضح أنه لولا الضغوط الخارجية والبهررة الدولية ضد كل من يعرقل التسوية السياسية والحوار في اليمن؛ لكان الوضع الآن مختلفا.. ولوجدنا آخرين ؛من غير الحراك الانفصالي؛ يصنعون مثلهم.. وكان يمكن أن نسمع من الداخل من يرفض المشاركة في الحوار إما رفضا للدور الخارجي بادعاء وطنية مفاجأة ظهرت عليه.. أو حتى بسبب عدم انتظام خدمة الكهرباء أو هطول المطر! وكالعادة سوف يتطرف بقايا النظام للتنديد بعدم حل مشاكل صعدة والجنوب، وعدم تنفيذ النقاط العشرين.. واستمرار المواجهات مع القاعدة.. وعدم الاهتمام بالحراك التهامي.. والحراك الصحراوي! وصحيح أن أحدا لا يتمنى أن يتدخل الأجانب في شؤونه الداخلية؛ لكن ماذا نعمل إذا كانت سنوات الخراب السياسي الشامل قد وضعت بلادنا في هذا الوضع؟ فهذه سنة مطردة: أن الاستبداد المحلي يجلب التدخل الخارجي بأي شكل كان.. ويمتلئ التاريخ بكثير من الأمثلة لدول أقوى وأغنى من اليمن فقدت استقلالها بسبب جنون زعمائها واستبدادهم كما حدث في ألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها في الحرب العالمية الثانية، وكما تعرض العراق للاحتلال للسبب نفسه.. وكما ظن الإمام يحيى أنه بعزل البلاد ؛وليس بالعدل وتحقيق العيش الكريم للشعب؛ يحمي استقلالها المزعوم! الدعم الخارجي للتسوية السياسية في اليمن يثير غضب أصحاب المشاريع التي تعرف أن موتها يتحقق في إطار اليمن الواحد الذي تحكمه دولة القانون الذي يوفر للجميع العدل، والمساواة، والحرية.. ومن سوء حظ أصحاب المشاريع الصغيرة ؛وحسن حظ عامة اليمنيين؛ أن المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية توافقت للمرة الأولى على رفض إعادة تقسيم اليمن، وتفتيته.. وهذا وضع سياسي نادر، وليس هناك في ظل هذه الحالة ما يزعج من الدور الخارجي طالما أنه يصب في اتجاه يتفق مع الأماني الشعبية: فلا إصلاح الممارسة السياسية بكل جوانبها.. ولا تحرير الجيش والأمن من قبضة العائلة.. ولا الإعلان عن أن وحدة البلاد مسألة محسومة في إطار إصلاح سياسي جذري يوفر العدل، والأمن، والمشاركة المتساوية العادلة للجميع في السلطة والثروة.. ليس في ذلك شيء يمس استقلال البلاد وسيادتها.. ولاحظوا أن أعلى الأصوات المتشنجة والمنددة بما تسميه احتلال كامل لليمن تابعة لمشروع من المشاريع الصغيرة؛ إما مشروع العائلة أو المشروع الطائفي أو المشروع الانفصالي أو مشروع العنف الأعمى! وفي كل الأحوال؛ فإن يمنا ذا نظام سياسي عادل مستقر هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها، والحد من النفوذ الأجنبي الذي لا يزدهر إلا في وجود الظلم والفقر، وفي ظل وجود مشاريع وهمية تبحث عن دعم خارجي لتمكين مشاريعها! [3] القضية الجنوبية هي إحدى القضايا المهمة التي يراهن عليها البعض لإفشال مؤتمر الحوار من الداخل.. وبالإضافة للعامل الخارجي الذي لا يرى في الانفصال حلا مناسبا بل خطورة على الجميع؛ فإن هناك عاملا داخليا مهما في معادلة الوحدة والانفصال صار له اليوم وزن يحسب؛ وهو ذلك الموقف اليمني في الجنوب والشمال الذي يرفض فكرة الانفصال؛ ليس على طريقة بقايا النظام السابق ولكن عن إيمان حقيقي بأن (الوحدة) قدر اليمنيين، وأنه لا يجوز تحميلها أخطاء الذين أنشأوا نظامها السياسي على أسس مصلحية حزبية ضيقة الأفق.. ولا أخطاء الذين تصرفوا في ممتلكات الشعب كالعصابات! الوحدة اليمنية ليست يتيمة.. بل لها مؤيدون وأمناء كثيرون ظلت أصواتهم خافتة طوال السنوات الماضية لعاملين اثنين: الأول: وجود النظام السابق بكل مساوئه وجرائمه متصدرا الدفاع عن الوحدة؛ دون أن يكون مستعدا لتصحيح ممارساته الخاطئة باتجاه إغلاق الملفات التي استغلت لخلق مزاج شعبي حاد معاد للوحدة.. ولاشك أن سقوط حكم صالح، ومجيء سلطة جديدة يتصدرها عدد من أبناء المحافظات الجنوبية قد أتاح للمؤمنين بوحدة اليمن: أرضا وإنسانا أن ينتقلوا إلى مربع متقدم في إعلان مواقفهم، وتقديم رؤيتهم للإصلاح، وباعتبار أن القضية الجنوبية رغم أهميتها إلا أنها تظل في الأخير جزءا من القضية اليمنية الشاملة التي تجسد مظالم واختلالات خمسين عاما من الإدارة السيئة، والإقصاء، والتهميش، والإلغاء، واحتكار السلطة والثروة، والمظالم في كلا الشطرين على حد سواء. وفي هذا السياق؛ تبدو أهمية خروج (صالح) وعائلته من المشهد السياسي في اليمن؛ ليس فقط جزاء على ما كانوا سببا فيه؛ ولكن لنزع الحجة التي يلوح بها دعاة الانفصال في حال بقائه بأن شيئا لم يتغير.. وكل شيء باق على ما هو عليه! العامل الآخر الذي رفع من مستوى خطاب الرافضين للانفصال هو ظهور الحقيقة الإقصائية الإجرامية لجماعات الانفصاليين المسلحين، التي لم تتورع عن استخدام العنف الدموي ضد مخالفيها من أبناء المحافظات الجنوبية أنفسهم.. الأمر الذي ينبئ أن المستقبل مع هؤلاء سيكون أسود ودمويا.. وأسوأ ما يلاحظ على هؤلاء أنهم على استعداد لعمل أي شيء غير منطقي، وغير إنساني لفرض مشروعهم الانفصالي! ومن الأشياء المنطقية –مثلا- إصرارهم على أن الجنوب غير يمني.. بالإضافة إلى سلسلة الأكاذيب والتزويرات التاريخية والسياسية التي يتكئون عليها لتعزيز مطلب الانفصال! أما الأعمال غير الإنسانية فيمكن ملاحظتها في ممارسات الانفصاليين المسلحين ضد إخوانهم من أبناء المحافظات الشمالية – من العمال والكادحين والبسطاء والباحثين عن لقمة عيش شريفة- والذي وصل درجة التحريض ضد وجودهم وتهديدهم بضرورة الرحيل، وإلى درجة القتل والحرق والتخريب لممتلكاتهم! هذه الممارسات الإجرامية لا تليق بمن يدعي انه صاحب قضية حق.. وربما نسي هؤلاء أن المجتمع الدولي لن ينسى لهم مثل هذه الممارسات اللاإنسانية –فهم ليسوا صهاينة على أية حال لديهم حصانة تحميهم- وأن مصيرهم قد يكون مشابها لما حدث في رواندا ومنطقة الصرب وغيرها التي ما يزال مرتكبو جرائم التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية فيها مطاردين.. وبعضهم حوكم أمام محكمة الجنايات الدولية! هذان العاملان.. بالإضافة إلى حقيقة أن أبناء المحافظات الجنوبية من كل لون سياسي صاروا يشاركون للمرة الأولى منذ 1990 في إدارة شؤون وطنهم بدءا من المنصب الأول في البلاد.. كل ذلك يجعل من تجاوز العقبة الكبرى أمرا سهلا إن صحت النيات، وأغلقت الأذان عن وسوسة الخناس الرجيم!