لم يختلج حسبان أحد من الساسة الغربيين والعرب أنفسهم انفجار ثورات ما سمي بالربيع العربي بذلك النمط الفجائي والخالي من البروتوكولات التمهيدية، فقد كانت نتيجة غير متوقعة حتى عند أعظم أجهزة المخابرات العالمية؛ وقد قيل أنه تم استدعاء رئيس المخابرات الأمريكية إلى الكونجرس للتحقيق معه في عدم توفر معلومات مسبقة عن هذا الربيع الذي ظهر في بلاد العرب. بغض النظر عن نسبة توقع الحدوث، السؤال الأهم: هل كان ذلك الانفجار المباغت مناسباً ومواتياً لتحقيق هدف الشعوب العربية المتمثل في الوصول إلى نمط راقٍ من الحرية والديمقراطية؟ وهل عُززت هذه التحركات بأسس متينة تضمن سيرها في الاتجاه الصحيح بلا توقف نهائي؟ هذا السؤال يستدعي منا ذكر أهم الأسس الطبيعية لنجاح الثورات وتحقيق أهدافها.. بالمقدور القول أن الثقافة المجتمعية هي أهم الأسس الرئيسة لنجاح أي ثورة، فهي بمثابة الحصن المنيع الذي يدفع عن حياض الثورة ويحميها من الصدمات التيارية القوية المحاولة إجهاضها وإعادتها إلى جحرها الذي خرجت منه، وهي التي تعطي الثوار إشارة الانطلاق الخضراء ليكملوا مشوارهم. وقد توصلت إلى قناعة شخصية، من خلال الملاحظة التاريخية والواقعية، أن ثورة بلا ثقافة من الصعب عليها الوصول إلى مبتغاها لأنها ستكون عرضة لإفك الأفاكين والمخادعين والنمامين. لنلقِ نظرة فاحصة على ثورات الربيع العربي، فقد شع نورها من أقصى المغرب العربي من تونس ثم توالت حلقاتها كأحجار الدومينو لتضع أوزارها على مصر واليمن وليبيا وسوريا، ولاختلاف مستوى الثقافة بين تلك البلدان اختلف شكل الثورة وقالبها وطريقتها وطريقة التعامل المجتمعي معها وحتى نتائجها! ومن الملاحظ جداً؛ تأثير الثقافة على مآل الثورات العربية فدولة تربعت على عرش العلم والتمدن الحضاري ونهلت من حضارة الغرب القريبة منها جغرافياً كتونس فازت بأوفر الحظ والنصيب وخرجت من ثورتها بأقل خسائر بشرية ووطنية، وهي الآن تنهي فصل مرحلتها الثورية والانتقالية بانتخابات الرئاسة المقرر عقدها بعد أيام من الشهر الجاري. وما كانت تونس لتصل إلى هذه النتيجة المتقدمة لولا ركيزتها الثقافية العميقة بين أغلب فئات المجتمع التونسي. وبالمقارنة الخاطفة بين النموذج التونسي وبقية النماذج الأخرى يمكننا القول أن عامل تعثر النماذج الأخرى منشأه ضعف الأساس الثقافي لدى شعوب تلك الدول وهو ما وقف ضد تحقيق حلم الثوار الشباب الذين اختاروا لشعوبهم حياة كريمة فاختارت لهم شعوبهم الموت بلا عزاء. فها هي مصر تعود إلى حاضنة العسكر من جديد وبصورة أشد قساوة مما كانت عليه، مدعوما هذا الحال بصمت شعبي عريض جهلت أسبابه ، هل نشأت على جهل مريع أم خوف فضيع؟! بينما لا زالت دول كاليمن وليبيا وسوريا تكابد الأقدار المأساوية التي تجرها إلى مربع العنف بمواجهة العناصر المضادة للثورة تسعى بشكل حثيث لإفشال هذا الربيع خشية من تفشيه وتمدده. وحينما ركزت في مقالي على أساس الثقافة لا يعني إهمالي للأسس الجغرافية والسياسية الأخرى التي لن تكون أقل أهمية في هذا الوضع الشائك والمعقد لكني حاولت التركيز على العنصر الذي نفتقده لأن توفره يعزز النجاح الذاتي من الداخل وغيابه لا يعطي أي فرصة للنجاح، فهمهما ثار الشباب وضحوا لأجل وطنهم فسيجدون من يقف حجر عثرة بطريقهم من أبناء جلدتهم الذين جهلوا ماضيهم وغابت عنهم ملامح مستقبلهم فارتضوا العيش في براثن الحاضر للأسف.