رغم كل التكنولوجيا المتقدمة بدرجة خرافية التي تجعل الولاياتالمتحدة ترسل سفنا فضائية إلى المريخ للبحث عن (المويه)، وإصلاح ذراع مسبار يدور حول الأرض على بعد آلاف الأميال من مركز صيانة في كيب كنيدي.. وعلى ما كانوا يقولونه عن قدرتهم على تصوير الملابس الداخلية لزعماء أعداء لهم، وعن نجاحهم في تتبع بقايا جهاز تسجيل وجدوه في مكان تحطم طائرة البانام الشهيرة في إسكتلندا، ثم تتبعهم للماركة والمحلات التي تبيعها حتى توصلوا إلى أن الذي اشترها مواطن ليبي! رغم كل هذه الإنجازات الهائلة؛ إلا أن الولاياتالمتحدة تصاب بالتبلد والغباء وعدم المفهومية عندما يتعلق الأمر ببعض مصالحها الخارجية في المنطقة العربية الإسلامية.. وعلي سبيل المثال فالحكومة الأمريكية ما تزال حتى الآن غير قادرة على تمييز جرائم إسرائيل في غزة – رغم تعدد الحروب الإجرامية- وهل هي تتعارض مع القانون الدولي أم لا؟ ولا تزال تعتصم بحسن الظن، وتمنح الصهاينة سبعمائة عذر بحجة أن الأمر غير.. واضح! وعندما حدث الانقلاب العسكري في مصر ضد حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي؛ تبلبلت الأجهزة الأمريكية في توصيف ما حدث وهل هو انقلاب عسكري أم ثورة شعبية ثم تحيرت ثم هداها إبليس إلا أنها معذورة ومرفوع عنها القلم، ولا مانع من أن تتعامل مع العسكر طالما أن الأمور غير.. واضحة! عقدة الأمور غير واضحة وصلت لنا إلى اليمن؛ فالذين يكتشفون الماء المريخ لم يستطيعوا أن يكتشفوا أي علاقة لإيران بما يجري في اليمن على أيدي الحوثيين.. والسبب بسيط فهناك اختلافات شاسعة بين الطرفين تجعل من المستحيل أن تكون هناك علاقة بينهما فمثلا: إيران شيعية اثني عشرية والحوثيون شيعة بدون اثني عشرية.. والإيرانيون يهتفون الموت لأمريكا بالفارسية والحوثيون يفعلون مثلها بالعربية والتشابه الوحيد غير المهم هو أن أمريكا تعيش منذ رفع الشعار بأمان وسلام! [ وأنا أقول يا ربي ليش ماتت قضية سفن تهريب الأسلحة الإيرانية في مجلس الأمن، ولم نعد نسمع لها خبرا ] وعلى طريقة نكتة: اللي ما يعرفش الطب.. يمكن القول إن أمريكا تراقب العلاقة بين الإيرانيين والحوثيين ثم تقول في قرارة نفسها: اللي ما يعرفش السياسة يقول دول من.. الطيبين الطاهرين! من أحرق من؟ كالعادة فليس أسوأ من حرق إنسان (مهما تكن المبررات) إلا أن يتصدى الصهاينة والأنظمة العربية والبيت الأبيض وأمثاله لإدانة جريمة الحرق؛ فأحدثوا بذلك بلبلة كان عدم وجودها أنفع لتأجيج المشاعر الشعبية ضد الجريمة! وهي تماما ما حدث مع حادثة لهجوم على مقر جريدة شارلي أبيدو الفرنسية التي أساءت إليها المواقف نفسها التي توجت بحضور نتنياهو الجنازة رغم أنف الفرنسيين الذي يعرفون قذارة الرجل حتى بالمقاييس الغربية العوجاء! تصوروا فقط مقدار الفشل والإحباط الذي يشعر به المتقززون من الجريمة؛ عندما يجدون في صدارة المندديين بها أمثال الصهيوني نتنياهو الذي أحرق كيانه المجرم غزة اكثر من مرة آخرها قبل شهور ؛وخص بجرائمه المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ العجزة؛ بحقد يبدو الداعشيون معه مثل طيور الجنة! وتخيلوا سفاهة غضبة نظام السيسي وإعلامه لعملية الحرق وهم الذين حرضوا وما يزالون على حرق المصريين وقتلهم منذ استولى انقلابهم على السلطة في مصر! وما تزال صور المقتولين حرقا في ميدان رابعة العدوية تتزاحم بها المواقع، وهي أسوا وأبشع من صورة الطيار الأردني.. أما جريمة إحراق 37 مصريا معتقلا في سيارة الترحيلات الشهيرة عمدا فقد كانت نهايتها شهادة على قذارة المجرمين فقد حكم على المتسببين بأحكام تتفاوت بين الثلاث سنوات للمتهم الأول وسنة واحدة مع إيقاف التنفيذ للآخرين! في اليمن أيضا رأينا الذين حرقوا اليمنيين في تعز، والذين قتلوهم كما تقتل الماشية في جمعة الكرامة، وكما قتلوا غيرهم في محافظات عديدة باسم الثورة ضد الجرعة والفساد؛ يتصدرون مجالس العزاء والتنديد بجريمة إحراق الطيار الأردني حيا.. وكأنهم ليسوا هم الذين يبررون أفعالهم كما تفعل داعش وغيرها! وكما قيل: آفة الأخبار رواتها.. فكذلك آفة حقوق الإنسان المنددين الملوثة أياديهم بدماء الأبرياء! بيروقراطيتها جنت عليها:مصر الناصرية تدفع الجزية لتركيا.. العلمانية! طالما سخر كثيرون من تقليدية خطب الجمعة في العالم الإسلامي؛ ولاسيما في الزمن الذي أعقب سقوط دولة الخلافة العثمانية؛ عندما كان الخطباء المنعزلون عن أحداث العالم يختمون خطبهم بالدعاء للسلطان المعظم، خليفة المسلمين، ملك البرين والبحرين، وحامي الحرمين الشريفين، والخطيب الداعي والجمهور الصارخ: آمين لا يعلمون أن المدعو له لم يعد له ولا لدولته وجود في الدنيا! كانت تلك صورة مأساوية لحالة الغيبوبة السياسية والحضارية الذي وصل إليه المسلمون يوما ما.. وهي للمفاجأة حالة تصيب أحيانا حتى دولا متقدمة بسبب البيروقراطية اللعينة التي تنشب أنيابها المخملية في أعماق الدولة والمجتمعات فتجعلها كالعمياء لا تنفعها عيون ولا قلوب! ولعله من المقارنة الظريفة أن نذكر مثلا لغيبوبة أوربية مماثلة ؛وإن كانت أقل فجيعة؛ فقد قيل إن مسؤولا جديدا في مجلس العموم البريطاني كان يلاحظ دائما في أحد أورقته جنديا بلباسه التقليدي يقف في مكان لا يتزحزح منه.. وفي مرة سأله عن وظيفته فسمع ردا غريبا إن مهمته هي الوقوف في هذا المكان لتحذير الناس من عدم لمس الجدار فتتلوث أيديهم بالطلاء.. ولما لم يكن هناك طلاء جديد أصلا فقد تقصى الأمر فاكتشف أن الحكاية تعود إلى زمن بعيد تم فيها فعلا طلاء ذلك الجدار، وخشية من أن تتسخ ثياب أعضاء العموم المحترمين إن مروا بجوار الجدار وهم غير منتبهين؛ فقد تم تكليف جندي للوقوف هناك لتحذير المارة.. ونتيجة للبيروقراطية الحادة نسي المسؤولون الحكاية لكن التكليف ظل قائما، وظل الجنود يقفون في المكان لأداء مهمتهم في تحذير الناس! على المستوى الفردي؛ هناك حكاية الجندي الياباني الذي اختبأ في إحدى الغابات أربعين عاما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وظل يعيش في الكهوف والغابات، ويأكل من الأشجار ويشرب من الجداول، ويعيش مع الحيوانات خوف الوقوع في أيدي العدو (وبما لأنه كان مكلفا من قائده بحراسة موقع ما!) حتى اكتشف أمره في ثمانينيات القرن الماضي، وخرج الجندي المخلص الذي صار عجوزا بين أضواء آلات التصوير ليكتشف أن الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد.. ولم يعد هناك من عدو! جزية في القرن.. العشرين! (بتصرف نقلا عن الجزيرة نت) حكاية دفع مصر في أوج عصرها التقدمي الجزية لتركيا في أوج زمنها العلماني ليست من حكايات الأساطير وفبركات الصحافة؛ فقد روى الحادثة الكاتب المصري الشهير/ محمد حسنين هيكل في كتابه (سنوات الغليان) وهي أنموذج سريالي للمدى الذي يمكن أن تأخذ البيروقراطية المجتمعات إليه.. وصحيح أن مصر مشهورة بنوعية من الممارسات البيروقراطية المعتقة التي طالما عانى منها المصريون، وسخروا منها بمرارة بعد أن يأسوا من التخلص من بلاويها؛ إلا أن الأنموذج الذي نحن بصدده الآن يبدو أشد وأنكى ليس فقط لدلالته البيروقراطية المؤسفة؛ ولكن لأبعاده السياسية والوطنية لدولة مثل مصر! والحكاية كما يرويها الاستاذ/ هيكل بدأت في أعقاب إحكام الرئيس المصري السابق/ جمال عبد الناصر قبضته على الأوضاع في مصر، وبالتحديد في عام 1955.. وكان من أولى اهتماماته في تلك المرحلة إعادة النظر في جهاز الدولة الإداري كأحد وسائل إعادة ترتيب قواعد القوة والسلطة التي تركزت في يده! فحينها اكتشف واقعة أصابته بالدهشة فقد تبين له أن مصر ؛التي انتهت علاقتها رسميا بالخلافة العثمانية عام 1914 بإعلان الحماية البريطانية عليها؛ ظلت تدفع الجزية المقررة عليها لتركيا حتى عام 1955.. وبالتحديد بلغ إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية : 23174984جنيها! وكالعادة استيقظت البيروقراطية للتحقيق في الواقعة، وتأكدت وزارة الخارجية المصرية أن مصر بالفعل ظلت تدفع الجزية لتركيا طوال السنوات الإحدى والأربعين! وعلى العادة البيروقراطية عندما تتحمس لحماس الزعيم؛ بشرته الخارجية أن مصر من حقها أن تطالب تركيا بإعادة تلك الأموال مع احتساب الفوائد عليها بواقع خمسة بالمائة وفق سعر الفائدة العالمي وقتها.. وهو ما سيجعل المبلغ المطلوب رده إلى الخزينة المصرية يصل إلى سبعين مليون جنيه.. أو ما يساوي ألف مليون دولار بقيمة النقود زمن صدور كتاب هيكل في عام 1988! وعلى حد رواية الكتاب؛ فإن الرئيس عبد الناصر رغم قناعته أن الأتراك لن يردوا أموال الجزية؛ إلا أنه وافق – ربما تماهيا مع بيروقراطية بلده- على ضرورة مطالبة تركيا بدفع أو إعادة مبلغ الجزية التي كانت مصر تدفعها لخزينة دولة لم تعد موجودة في الدنيا، وتقاسم أعداؤها أراضيها وممتلكاتها كما يفعل الأكلة على الموائد! بكل المعايير.. يظل فعل خطباء الجمعة الداعين بالنصر والتمكين للسلطان حاكم البحرين والبرين بعد انقضاء دولته.. والجندي الياباني المختفي في الغابة أربعين سنة.. والجندي البريطاني الحريص على نظافة ثياب المشرعين في بلاده.. كل هؤلاء يظلون أقل استحقاقا للوم والتقريع من دولة بحجم مصر ظلت تدفع الجزية علامة على خضوعها وتبعيتها لدولة لم يعد لها وجود على وجه الأرض.. وحتى أن النظام السياسي الذي نشأ على أطلالها في تركيا كان علمانيا متطرفا معاديا عداء صليبيا لها وللإسلام ولكل ما يمثله مما هو أقل من الجزية مثل حجاب النساء وغطاء الرأس أو الطربوش التركي الشهير! المهم الآن: يا ترى كم جزية موجودة في حياتنا ولا ندري به؟