لا شك أن أكثر المتفائلين بالانقلاب العسكري في مصر، من المؤيدين له من غير العسكر، لم يكونوا يتوقعون أن تصير – أو تنهار- الأوضاع في مصر إلى ما صارت عليه خلال الشهرين الماضيين من عُمر الانقلاب، وهي حالة مأساوية تجعل سنة حكم الرئيس محمد مرسي –لسُوء حظهم- كالنعيم مقارنة بها، وتضرب حيثيات المؤامرة ضده في القلب؛ فحكاية الفشل في إدارة الدولة، والتدهور الأمني والاقتصادي، والإقصاء والتهميش ورفض التوافق، وأخونة السلطة والوظيفة العامة.. الخ الأكاذيب التي بررت بها أطراف الانقلاب الداخلية والخارجية فعلتها التي فعلت، كل ذلك يصير عارضاً بسيطاً مقارنة بما يحدث في مصر منذ الانقلاب! وإذا استثنينا قذارة المؤامرة الانقلابية من الناحية السياسية والأخلاقية؛ فإن الإجرام الذي حدث في مصر خلال شهري الانقلاب ضد الشعب لم تعرفه البلاد حتى في أحلك عصور الاستبداد العسكري خلال ال60 عاماً الماضية؛ فللمرة الأولى يفتح الجيش والأمن المصري نيران أسلحته ويطلق الرصاص الحي على عشرات الآلاف من المواطنين المصريين السلميين، ويقتل ويجرح منهم الآلاف بدم بارد والعالم كله يرى ويسمع ما يحدث على الهواء مباشرة! وصحيح أن المعتقلات المصرية لم تكن تخلو عادة من سجناء الرأي من السياسيين والمفكرين والإعلاميين والعلماء الذين عوملوا بشيء من معاملة اليهود في معتقلات النازية؛ لكن لم يحدث حسب علمي ما حدث في ميادين رابعة العدوية والفتح ورمسيس وقبلها في مذابح الحرس الجمهوري وجسر 6 أكتوبر وسجن أبو زعبل وغيرها من المجازر التي تتابعت في حق جماهير المصريين المدنيين!
[2] مجاميع الانقلاب العسكري في مصر أقنعوا أنفسهم بخدعة إبليس لأخوة نبي الله يوسف بن يعقوب عليه السلام؛ فعندما قرروا التخلّص منه خدعوا أنفسهم بأن مؤامرتهم القذرة ستكون وسيلة لهم للهداية وللسير في الطريق الصحيح أو كما قالوا: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين.."، ونسختهم المصرية المعاصرة قالوا: "اعزلوا مرسي، وألغوا الدستور، وانقلبوا على الديمقراطية، وصادروا الإرادة الشعبية، تخل لكم السلطة، وبعدها أسسوا ديمقراطية جديدة، وتكونوا ديمقراطيين صالحين"!
وها هي سلطة الانقلاب منذ بسطت على السلطة أدخلت مصر في دوامة من الأزمات والمشاكل والانهيارات العامة في شتى مناحي الحياة، وبدا عجزها حتى عن إتقان ممارسة الكذب والبهتان المشهور عنها، ولأن ما يجري في مصر منذ الانقلاب أسوأ من الحيثيات التي برروا بها المؤامرة؛ فقد يكون من المستحسن، ومن باب: أهل مكة أدرى بشعابها، أن نقدّم هنا مقاربة لتلك الحيثيات ليس من أجل مصر فقط ولكن من أجل أخوة يوسف في اليمن وتونس، لكيلا يقعوا في أخطاء أخوة يوسف في مصر، ولعلّ القراء يتذكرون أن أبرز ثلاث حيثيات لتبرير الانقلاب على الرئيس المنتخب بعد عام واحد فقط من انتخابه كانت تدور حول: رداءة الوضع الاقتصادي- تدهور الوضع الأمني- عدم احترام الدستور والقانون!
ولنبدأ من الموقف من الدستور والقانون واحترامهما؛ ففي تعليق لمواطن مصري على الحالة التي وصلت إليها البلاد في التعامل وفق الدستور والقانون واحترامهما بعد الانقلاب العسكري، الذي برر زعماء انقلابه بأن نظام مرسي لم يحترم القانون والقضاء، وكانت خلاصة الوضع هكذا: -إلا صحيح: إيه موقف المحكمة الدستورية من لجنة العشرة طراطير ولجنة الخمسين بلطجي مقارنة بالتأسيسية؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يقول إن رئيس الدستورية يبقى رئيس مؤقت؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يقول إن وزير الدفاع يعزل رئيس منتخب (بإشراف قضائي)؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يقول إن من حقك تطلّع إعلانات دستورية؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يقول إن الآلاف يبادوا والقانون ما يحققش مع المجرمين؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يسمح لجيش وشرطة في دولة تحت سلطتك يأجروا قناصة مرتزقة وبلطجية؟ -إلا صحيح: أي دستور وقانون يتطبّق حاليا على رئيس الجمهورية الشرعي؟
هذا هو معنى "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا"، فقد ارتكب الإنقلابيون كل هذه الموبقات والجرائم الدستورية والقانونية والحقوقية ليكونوا مستقبلا ديمقراطيين صالحين ويبنوا دولة الدستور والقانون، واحترام حقوق الإنسان، فلا يتم عزل رئيس منتخب ولا يجمّد دستور، ولا يقتل الجيش والأمن المواطنين!
[3] استغلال معاناة الناس من الوضع المعيشي الصعب، بعد ستين عاماً من خراب العسكر وفشلهم في بناء الدولة القوية المزدهرة، وتحريضهم للبلطجية والعصابات بإشراف وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية على إثارة الفوضى في كل مكان لمنع حدوث حالة طبيعية من الاستقرار والأمن تسمح بالبدء في انطلاق عجلة البناء والتنمية والاستثمار، وكان جزاء الانقلابيين من جنس مؤامرتهم، فها هي مصر لم تعرف مثل هذه الحالة من الانهيار توقف عجلة الحياة حتى في سنوات الحرب مع إسرائيل، ولعلّها المرة الأولى التي تتوقف فيها حركة القطارات بين أرجاء القطر المصري بمثل هذا الشكل، وفي أرقام مفزعة عن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها البلاد في ظل الانقلاب العسكري نقرأ الآتي: [ملخص الحالة الاقتصادية لمصر صباح الخميس 5 سبتمبر]: 1- قطر تخطر سلطات الانقلاب العسكري بتأجيل تحويل وديعتها بقيمة 2 مليار دولار إلى أجل غير مسمى. 2 - الشركات التركية تعلن انسحابها من السوق المصري، ومنير فخري عبد النور يلوم من أساءوا ل تركيا في الإعلام لحجم الخسارة الاقتصادية من هذا الموقف في هذا الوقت الصعب للاقتصاد المصري. 3 - الكسب غير المشروع يستعلم عن مرتب مرسي والأموال التي تقاضاها منذ توليه منصبه، والمالية ترد: مرسي لم يتقاض أي أموال ولا حتى مرتبه الشهري منذ توليه الحكم! 4 - ارتفاع عدد المصانع المغلقة إلى 5 آلاف مصنع بسبب ظروف السوق وتوقف التمويل المصرفي وأزمة الطاقة من كهرباء وغاز وتعنّت البنوك في التعامل معها في فرض الغرامات منذ بدء الانقلاب العسكري و80 % من تلك المصانع يعمل في صناعة الملابس والمنسوجات. 5 - سويسرا تعترض على الانقلاب على الرئيس المنتخب مرسي، وتجمّد المفاوضات مع مصر بشأن إعادة الأموال المنهوبة من مبارك ونظامه! 6 - المتحدث الرسمي لوزارة الكهرباء: العصيان المدني وعدم دفع الفواتير يؤدي إلى خسائر فادحة لقطاع الكهرباء وانهياره تماماً، والقطاع يقدم خدمته لكل المصريين دون تفرقة على أساس سياسي؛ لأنه قطاع وطني مصري ووزارة الكهرباء لا دخل لها بالسياسة. 7 - أبو الغار (أحد زعماء الأحزاب المتآمرة): "عندما سافرت إلى أمريكا لتوضيح حقيقة ما حدث خلال الثورة المصرية وما تلاها من أحداث وجدت أن هناك صعوبة شديدة في الإقناع". 8 - استمرار خسائر البورصة اليومي: مؤشرات البورصة تتراجع خلال مستهل تعاملات اليوم الأربعاء والخسائر حتى الآن 895 مليون جنيه!! 9 - لا مساعدات إضافية من الإمارات، والكويت لم ترسل ما وعدت به. 01- وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل: ساعدنا مصر كثيراً ويجب أن يتوقفوا عن إزعاجنا. 11 - البنك الأهلي يقرض فنادق ومنشآت سياحية 5 ملايين جنيه لتمويل الرواتب التي لم تدفع للعاملين. 12- البنك المركزي يطرح 1.3 مليار دولار للبنوك لاستيراد سلع إستراتيجية بعد النقص الشديد بالأسواق من السلع الرئيسية. 13- وول ستريت جورنال: فنادق القاهرة خالية وقطاع السياحة يعاني ركوداً حاداً وغير مسبوق بسبب الاضطرابات السياسية.
[4] يترسخ في النفسية المصرية تراث عميق من عدم الثقة بالسلطة الحاكمة وأجهزتها المحلية والأمنية، وعدم نزاهتها، وأنها مجموعة من الحرامية والنصابين والبلطجية، وفور الإعلان عن حادثة استهداف موكب وزير داخلية الانقلاب المصري راجت تكهنات "فورية" أنها مجرد لعبة أتقنها الأمن المصري من زمان بعيد لتمرير مؤامراته ومخططاته غير القانونية في حق الأبرياء، وقد ساعد على انتشار هذه التكهنات عدد من المظاهر غير المسبوقة في الحياة المصرية، وفي عوائد الأمن، فسيارة الإطفاء تصل بعد دقيقة من الانفجار، وطائرة تحوم فوق الموقع بعد دقائق، وأخبار الإعلام الرسمي تتضارب في شأن ما حدث. فمرة يقال إن قنبلة ألقيت من فوق عمارة على الموكب، وثانية أن سيارة ملغمة انفجرت، وثالثة أن انتحاريا فجّر نفسه ومات في الحادث! والوزير نفسه يظهر في موقع الحادث وكأنه خارج من الحمام في قمة الشياكة لم يمسسه سُوء، ولا حتى شعرة في رأسه خرجت عن التسريحة أو ظهر عليه وعلى ثيابه شيء مما يبرره حادث استهداف ضخم وخسيس دمّر عدة سيارات وواجهات مبانٍ، وأصاب عشرين بعضهم بترت أرجلهم!
ولذلك كان طبيعيا أن يتشكك الناس في الروايات المصرية الرسمية حول الحادث، وخاصة بعد أن تكشف أن عائلة الوزير لم تكن في البيت منذ البارحة، وفوراً طالبت الداخلية وسائل الإعلام بعدم نشر أي معلومات عن الحادث لكيلا يؤثر على نزاهة التحقيقات، وهي العبارة الروتينية في مثل هكذا حوادث. وبادر البعض لتقديم رواية ساخرة عمّا حدث، وتم الإعلان عنه رسمياً مما ننقله إليكم: [تفريغ الصندوق الأسود لعملية السيارة المفخخة من موسوعة التفخيخ العنيف للإرهابي اللطيف]: وبينما الإرهابيون يقودون سيارتهم المفخخة في اتجاه منزل محمد إبراهيم استوقفهم أحد كمائن الجيش المنتشرة زي الرز..: - سلام يا عم الإرهابي! - سلام يا باشا.. -تفجير إن شاء الله؟ - لا يا باشا ....تفخيخ! -وفين العبوة المفخخة؟ في الكبوت؟ - لا يا باشا، في الشنطة ورا.. -ومش خايفين تنفجر في الحر ده؟ هاتوها هنا قدام في التكييف.. - يا باشا إحنا مش عاوزين نستفزك بس! -لا.. أبداً إحنا مهمتنا نحمي الإرادة الشعبية.. بالسلامة إن شاء الله.... لا إله إلا الله.. - محمد رسول الله، لينا رب وليكو رب بإذن الله! وأمام منزل الوزير: -الحراسة: صباحو يا عم المفخخ! - سلامين وحته يا أنيشتا، أبو حمّام ها يتأخر، عاوزين نفجر بسرعة لأن ورانا.. غسيل! - لا أبداً بيشرب الكافوتشينو ونازل قوام.. .... - أهو أبو حمّام نازل أهه، يا الله استعد.. - محمد إبراهيم: سلام يا رجاله، تفجير إن شاء الله؟ - لا يا باشا، تفخيخ علشان سمعة مصر والسياحة، وكده! - طب بالتوفيق إن شاء الله، عاوزيني أقف فين يا رجاله؟ - خد لك ساتر يا باشا علشان الطرطشة والمسامير، وكده! - على القمة كده كويس؟ - حلو أوي كده، نفجّر بإذن الله؟ - فجّر. بس ابعد عن الليكزس اللي مكتوب عليها "الحلوة من دبي". - وجب يا باشا، يا مسهل، بووووووووووم! المخرج: كاااااات، عفارم يا رجاله، حلو أوي كده، يالله يا حمادة علشان تطلع في "أون تي في"، وما تنساش تربط صباعك الصغير، انزل لي يا بني ببوس الواوا! أسوأ من كل ذلك هو ظهور الدولة المصرية الشهيرة بالعنفوان والشدة عاجزة ضعيفة أمام تيار الرفض الشعبي للانقلاب، وسقوط هيبتها والشعب بالملايين يتحدى حالة الطوارئ وقانون حظر التجول، وهي عاجزة عن عمل شيء إلا القتل والاعتقال والتلفيق والكذب!
[5] يا أخوة يوسف في كل زمان ومكان: ليس ذنب أخيكم أنه محبوب وشعبي وأفضل منكم؛ لتكيدوا له كل هذا الكيد، ويستزلكم شيطان الفلول وبقايا النظام لتعتدوا عليه وتتآمروا عليه لتقتلوه أو تلقوه في غيابة سجون مصر! يا أخوة يوسف: لا تستسلموا لوسوسة شيطان النظام السابق إنه عدو مبين لكم وليوسف، ولا تصدقوا أنكم بعد أن تقتلوا أخاكم وتتخلصوا منه سوف تكونوا ديمقراطيين صالحين، ومهما كانت مآخذكم على أخيكم فهي لا تبرر الخيانة والتآمر.. فالله غالب على أمره، ولقد مكّن ليوسف في الأرض جزاء إحسانه وفائه بالعهود، وصبره على كيد إخوته حتى وقفوا أمامه يعتذرون إليه: "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين"، ثم طأطأوا رؤوسهم خجلا أمام أبيهم وهم يقولون: ".. يا أبانا: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين".
يا أخوة يوسف: لا تكرروا أخطاء غيركم فتدفعون الثمن أضعافاً مضاعفة من حاضر وطنكم ومستقبله، وأماني الثوار الذين خرجوا يبحثون عن دولة النظام والدستور والإرادة الشعبية السليمة!
يا أخوة يوسف: ليس في كل مرة تسلم الجرة، وها هم في مصر عقروا الناقة فنزل عليهم عذاب من كل مكان؛ فلا تكرروا فعلتهم فليس يوسف هو يوسف في كل مرة!
أحلى كلام: [..قال: أنا يوسف وهذا أخي، قد منّ الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين..].