الكتاب الذي بين أيدينا لا يأخذ قيمته، من كونه كتاب موسوعي تاريخي شامل للحج، من عهد إبراهيم عليه السلام، وحتى عصرنا الراهن، ولا تأتي أهمية هذا الكتاب من إلمامه بالجوانب الفقهية المتعلقة بالحج، ولاشك أن الكثير من الفقهاء أكثر قدرة من كاتب هذه الدراسة على الإحاطة الفقهية بقضايا الحج وتفصيلاته. إن أهم ما يميز هذا الكتاب-كما يؤكد المترجم ويلمس القارئ- غوصه في الأعماق، وتحليقه في الآفاق للظفر بحقيقة الحج الروحية، ومن هذا المنطلق ينظر الكاتب إلى رسالة الحج باعتبارها مؤسسة دعوية ووسيلة للوحدة ورحلة غير عادية قادرة على تجديد الإيمان. ويؤكد الأستاذ وحيد الدين خان في كتابه الذي بين أيدينا»»حقيقة الحج»» أن الكعبة إنما بنيت في الصحراء، لتكون مركزاً دائما للهداية الإلهية{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} وذلك بعيدا عن شوائب الحضارات، ونفايات المدنيات والفلسفات.
دلالة تاريخ رحلة الإيمان ويشير المؤلف إلى أن المؤمنين حين يقومون بمناسك الحج،إنما يعيدون بطريقة عملية حية التاريخ الإيماني الإبراهيمي على الأرض، فيفارقون أوطانهم كما فارق إبراهيم الخليل وطنه، ويمرون بكل ما مر به إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام،إلى أن ينتهوا إلى التلبية «لبيك اللهم لبيك» في اجتماع عرفات الأعظم،ثم يرجمون الشيطان كما رجم إسماعيل..فكأن الحاج يقول لله تعالى من خلال هذه الشعائر»الأشياء الرمزية» إنه لو اقتضت الضروف مرة أخرى،فإنه مستعد لكي يسير على نفس خطوات إبراهيم حتى ولو ذبح إبنه.
دلالات الشعائر يؤكد المؤلف أن تكبير الحاج(الله أكبر..لا إله إلا الله..الله أكبر) من شأنه توليد نفسية معينة تفيض بإدراك عظمة الخالق، والإدراك أن العظمة لله وحده وأن جميع جوانب العظمة الأخرى يجب أن تنحني أمام عظمة الله الكبرى.. وإن طواف الحاج حول الكعبة إنما هو إقرار عملي بأنه سيجعل نقطة واحدة محور كل جهوده، وسيتحرك في دائرة محدودة، هي دائرة الحنيفية السمحة، كما تطوف كل سيارات النظام الشمسي حول مركز واحد هو الشمس. والسعي بين الصفا والمروة يعلمنا أن يكون مسعانا داخل دائرة محددة دون أن نتجاوز أو نتفلت بعيداً عن إخواننا المؤمنين الآخرين.
الحج مدرسة تربوية يؤكد المؤلف أن الحج رحلة إلى الله لاستئناف المسيرة على هدى وبصيرة، وهو عطاء بقدر عفو الله لا بقدر عمل الناس، وهو تجديد للإيمان وتحقيق للتقوى والعفة والأخلاق الفاضلة، وتدريب على تجنب الثرثرة والرفث والعنف وتعويد على الانضباط، وإنكار الذات والاندماج في الجماعة{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ».