- كتب الكثيرون عنه، إنه الغائب عن دنيانا، الحاضر في أذهاننا، إنه الصحفي الراحل محمد سماحة، وقرأت أغلب ما كتب عنه، ومن كتب عنه اقتصروا على معايشتهم له في كتاباتهم، أما أنا فسأروي جانبا مهما من حياته مع أهله الذي يجهله الكثير من زملائه ومن كتبوا عنه. - لقد كان الأستاذ المربي الفاضل محمد سماحة نادرا بين أقرانه، خاصة في طريقة وأسلوب تعامله مع والدته وزوجته وأبنائه وجيرانه، فخلال لقائي بوالدته أثناء تقديم واجب العزاء لها وحديثي معها، لم تنفك تحكي أن ابنها محمد منذ تيتمه مبكرا بعد وفاة والده، إلا أن الله رباه لي، وكان نباته حسنا منذ صغره، ولم يتعبني في تربيته ونشأ على الصلاح والإيمان، بل وأعانني في تربية إخوته، فصلحوا بصلاحه.
- "وكان رغم قصر يده ماديا- تقول والدته- إلا أنه كان جوادا معطاءا، وكان أكثر برا بي، وكثير الاهتمام بتعليمي أمور ديني، وإفهامي أخلاقيات المسلم الصحيح، وكل ذلك بأسلوب مؤدب وهادئ، حتى أنه كان حريصا على الأخذ بأيدي أختيه نحو الصلاح، ولم يبخل عليهما بالنصائح والإرشادات في تربية أبنائهن التربية الحسنة"، والحق أنه قل من يفعل ذلك في زماننا!!.
- أما رفيقة دربه، زوجته أم ضياء، كانت طوال سنين مرضه تضع يدها على صدرها خوفا من فراقه لها، وكانت خشيتها أن يتركها وحيدة وهي تعول عشرة من الأبناء، سبعة أول وثلاث بنات، ولكنها اليوم رغم حزنها الذي لا يضاهيه حزن، وألمها العميق، تتقبل العزاء فيه، وتقول: كان محمد يقولي لي دائما أثبتي واصبري واحتسبي أجرك عند الله.
- وقد عرفت منها أمورا كثيرة، عن تفاصيل دقيقة من آخر حياته، لكن لا يمكن في سطور أن تحكى كل الحكاية، ولكن الشاهد في الأمر أنه منذ زواجه من ابنه عمه لم يمد يده قط نحوها، ولم يؤنبها أو يشينها أمام أحد، حتى إذا كان عتابا بينهما فهو كان يرشدها ويوجهها دونما تجريح أو إساءة.
- ولقد كان الراحل سماحة رجلا بسيطا جدا، وزوجته من تؤكد ذلك، وتقول أنها لم تكن تنزعج منه أبدا، وكانت طلباته بسيطة، ويقبل أي طعام يقدم له دونما عتب، وفي آخر أيامه كان يشعر أنه مفارق للحياة، فكان دائما يلمح لنا أنه راحل، فيوصينا بالصلاح في أعمالنا، وأن نطبق السنة بعد وفاته، ولا نبالغ في أمور العزاء، كما أوصانا بأن نرضى بأمر الله، وكانت مقولته الدائمة خاصة في الليالي الشديدة أثناء مرضه (اللهم لك الحمد، اللهم إن كنت راضيا عني فلا أبالي).
- وخلال أيام العزاء الأولى كانت نساء الجيران يأتين للعزاء وأنا حاضرة بينهن، فكانت إحداهن تقول: رحل من كان يقف معي في تربية أولادي، فقد كان يقف للإصلاح بين أولادي حين شجارهم، وأخرى تقول: رحل الرجل الذي لم تكن ثمة مناسبة من عزاء أو فرح، إلا وتصدر المجلس ليوصيهم ويرشدهم بالخير.
- وأكثر ما أدهشني قول إحدى جيرانه: "رحل الرجل الصالح"، وهذه الجارة حديثة السكن بالقرب منهم، وهي لا تعرفه، ولكنها كانت تراه من نافذة منزلها، فتشعر من خطواته نحو المسجد، أنه رجل لا مثيل له، فقد كان رجلا أحبه الله فأحبته قلوب الناس.
- لقد كان محمد سماحة يطيل المقام بمسجد الإحسان بحي الأصبحي، وكان يعتكف به كثيرا، وفي يوم تشييعه جاء ضيفا على هذا المسجد، لكنه لم يأت كالعادة ليصلي، ولكن ليصلى عليه، ولقد تقبله الله بقبول حسن، فأحسن وفادته بمسجده، وأكرمه بالمئات الذي صلوا عليه، وساروا خلفه مشيعين له إلى مثواه الأخير، لا لوجاهة ولا لمال، ولا لأن أحدا سيعتب عليهم، لكن لأنهم أحبوه ورأوا أنه رجل حيث قلّ الرجال.