لن تترك الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي- ومنها اليمن- ثورات التغيير تمضي نحو تحقيق أهدافها دون أن تضع في طريقها أفخاخا وعراقيل مادية ومعنوية.. هذا أمر بديهي وينبغي أن تنتبه إليه جماهير هذه الثورات وتسد المنافذ التي يمكن أن يتسلل منها مكر الأنظمة! ولأن هذه الأنظمة عريقة في البهتان والمكر، ولن تستسلم بسهولة، فإن الواجب الآن أن نضع النقاط على الحروف محاولة منا لتمتين الصفوف، وإبطال مكر الأنظمة الذي لن يدع شبهة ولا بعسيسه إلا وسيعمل على إثارتها ودسها في العقول والقلوب لتفكيك هذه (الوحدة) النبيلة التي برزت خلال أسابيع فقط من اندلاع شرارة ثورة التغيير. مصداقية تايوانية! بدأت ماكينة البهتان الرسمي في بث سمومها بأن ثورة التغيير ليس لها مبرر بعد أن أعلن رئيس الجمهورية مبادرته أمام مجلسي النواب والشورى! وصحيح أن هذه الشبهة لم تؤثر سلبا على زخم الثورة، لكن أبواق السلطة وبعض البسطاء من الناس الذين انخدعوا بالكلام، تصر على تكرار هذا الكلام وكأن (المبادرة) إنجاز تاريخي عظيم لم يعرف اليمنيون مثيلا له! وبداية، فإن المحك في مثل هذه المبادرات هو مصداقية السلطة صاحبة المبادرة.. ومن الواضح أن مصداقية السلطة مضروبة ولم يعد أحد يصدقها فخلال سنوات قليلة مضت تأرجحت السلطة عدة مرات بين الحوار (الكلامي) وبين قطع الحوار والدعوة إلى البدء في إجراء الانتخابات النيابية بدعوى الحرص على الشرعية الدستورية والالتزام بالاستحقاقات الانتخابية! أما (المبادرة) الأخيرة فيراد لها أن تكون الفتح الأعظم والتنازل الذي ليس بعده تنازل! لكن من سوء حظ أصحاب المبادرة أنها جاءت في أيام يتساقط فيها (الزعماء) العرب أو تهتز العروش تحتهم، وتحقق الشعوب في مصر وتونس وليبيا إنجازات وتكسب حقوقا تبدو أمامها (المبادرة اليمنية) وكأنها حبة (بنادول) انتهت صلاحيتها قبل سنوات ولم تعد تفيد إلا كمادة تسلية في علم (عدم الفهم) أو كأنها مثل صب قطرة ماء صغيرة على منزل يشتعل نارا! وبإيجاز.. لو كان هناك ذرة فهم لجاءت المبادرة متضمنة حلولا شاملة لكل الاختلالات التي أصابت ثوابت الوطن وفي مقدمتها: الممارسة الديمقراطية المزيفة، والنظام الجمهوري الذي يكاد يلفظ أنفاسه بمشروع التوريث والتمديد، وتكريس حكم الفرد وأفراد أسرته وهيمنتهم على مفاصل الدولة العسكرية والاقتصادية! والثابت أن المبادرة لم تضع حلولا جذرية مقنعة لتطمين الشعب على مستقبل نظامه الديمقراطي ونظامه الجمهوري.. فضلا عن المسائل الأخرى.. ولذلك فمن المفهوم ألا تتعاطى المعارضة وجماهير الشعب مع المبادرة إلا بما تستحق من التجاهل.. وفي أحسن الأحوال المطالبة بخطوات ملموسة لتأكيد مصداقية الإعلان عن عدم وجود أو عدم إمكانية تمديد أو توريث لكرسي الرئاسة! ومن السهولة بمكان أن نلاحظ أن إطلاق المبادرات في آخر لحظة أمر سبق أن حدث في تونس ومصر دون فائدة لأن الوقت كان قد انتهى!
سلطة الحرشة! كما حدث في مصر تحاول السلطة تجربة سم اسمه (ثورة الشباب هي الأصل والأحزاب تسعى لسرقتها).. حتى وصل الأمر إلى مستوى تكليف رئيس الوزراء بالحوار مع الشباب! هكذا حاف.. دون تحديد كيف ستختار الحكومة ممثلي الشباب وهل ستعتمد على وزارة الشباب أم أحزاب اللقاء الوطني في ذلك؟ المهم مجرد كلام وتهويش ومحاولة لشق الصفوف فمثلا عندما يكون الهدف هو التقليل من حجم الثورة يقال إن هؤلاء شرذمة قليلون وشباب مراهقون، وناس بسطاء من العامة لا يفقهون شيئا والأحزاب تستغلهم لتحقيق مطامع قياداتها! وعندما يكون الهدف الإساءة للمعارضة.. يمتدح الدس الرسمي (الشباب) بأنهم هم الثوار والمفجرون للثورة وليس الأحزاب التي وصلت متأخرة لتركب الموجة وتسرق الثورة! المهم الآن: هو أن ينتبه الشباب خاصة لمثل هذه الدسائس، وأن يتذكروا أن (الثورة الشعبية) في أي بلد ليس لها أب واحد ولا قائد واحد.. ولا يستطيع واحد أن يزعم أنه خطط لها وحدد موعد انفجارها! فالثورات الشعبية مثل البراكين تنفجر دون موعد ولا تحضيرات، وفي كل ثورة شعبية فإنها تستند إلى مخزون من الأنين والآلام والإحباطات والمظالم.. وتراكمات من النضالات السلمية بشتى الأساليب.. وهو الأمر الذي حدث في ثورة بلادنا الراهنة، فخلال سنوات مضت كانت فعاليات النضال السلمي تتراكم تدريجيا وتكسّر الحواجز شيئا فشيئا، وتجمّع قطرات السخط الشعبي في النفوس عبر أساليب عديدة مثل: الاعتصامات والمسيرات، ووقفات الاحتجاج.. وبموازاتها حملات الصحافة المستقلة والحزبية ودور المعارضة والمستقلين في مجلس النواب ضد الفساد والاختلالات والانحرافات السياسية والاقتصادية والمظالم الاجتماعية! ولعل مشاركة المعارضة في الانتخابات الرئاسية 2006م كانت المنعطف الكبير الذي نقل الموقف الشعبي إلى درجة متقدمة من الوعي والفهم ورفع درجة الآمال في إمكانية تحقيق شيء ما، لولا أن بعض شروط النجاح لم تتوفر مثل وحدة الصفوف خلف غاية واحدة بدلا من تشتتها وراء مشاريع سياسية لا تتسع للوطن كله والشعب كله.
الكلمة الآن.. للثورة.. في أي ثورة شعبية لا يمكن أن توجد وحدة فكرية وسياسية تامة.. فالشعب يضم فئات ومجموعات متغايرة في برامجها التفصيلية ورؤاها هذه المرحلة هو توحيد الثورة الشعبية حول هدف واحد هو تحرير الإرادة الشعبية- والعبارة للأخ الشاعر عبدالرحمن الشريف- من احتلال الحكام العرب للشعوب العربية- والعبارة هذه قرأتها في شريط قناة الجزيرة مباشرة-.. هذا هو الهدف الذي ينبغي أن يجتمع عليه الجميع في المعارضة؟ أي إقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي يحترم الدستور والقوانين، ويلتزم بالخيار الشعبي عبر انتخابات حرة ونزيهة، ويبسط الحريات كلها للجميع، ويحقق توازنا حقيقيا بين السلطات الثلاث.. فإذا تحقق هذا الهدف العظيم وعادت السلطة إلى الشعب فيمكن بعد ذلك أن تتمايز الاجتهادات والمشاريع السياسية وتحتكم إلى الشعب في الأخير! الخطورة الآن أن ينجح الدس الرسمي في إثارة البعض واستغلال حسن نياته لإثارة الأمور الخلافية.. وهو أسلوب جربته السلطات في تونس ومصر وفشل بحمد الله.. والآن يحاول نظام القذافي المجرم إثارته عبر الحديث عن مؤامرة لتقسيم ليبيا، وتدمير ثروة النفط، وإثارة الاحتراب بين القبائل!
ما المطلوب الآن؟ المطلوب الآن من جميع المثقفين والعلماء وأمثالهم في مختلف المجالات أن يسارعوا إلى الالتصاق بجماهير المعتصمين وفتح حوارات ونقاشات مع الجميع لتحقيق التلاحم المطلوب عبر توحيد المشاعر والنفوس وحول الهدف الرئيسي لثورة التغيير.. وعلى الأخص ينبغي التأكيد على ما يلي: 1 ثورة التغيير هدفها إنشاء جمهورية وحدوية ثانية تنقطع في مضامينها عن الجمهورية القائمة التي ليس لها من المبادئ إلا الأسماء والأشكال الفارغة. 2 الابتعاد عن الخوض في تفاصيل المستقبل لأنها مما يجوز الاختلاف فيها.. أما الذي لا يجوز الاختلاف فيه الآن هو التوحد لإحداث التغيير الشامل وبناء نظام الدستور الذي يتسع للجميع ويحمي الجميع. 3 الثورات لا تنجح إلا بوجود أخلاق إنكار الذات، والتضحيات، والتسامي عن أمراض النرجسية والنعرات القبلية والمناطقية والمذهبية والسلالية، ومتى تحقق هذا الشرط فالنصر آت بإذن الله. 4 الشباب هم قاطرة التغيير وهم في مقدمة الصفوف دائما.. دون إنكار لجهاد الآباء والقيادات المجربة التي بذلت جهودا كبيرة في تشخيص العلل والاختلالات وابتكار الحلول له، وتصدت وقاومت سنوات جبروت السلطة وجنونها. 5 وأخيرا.. فإن ثورة التغيير هذه سوف تزيل الحواجز وتجسد الوحدة بين أبناء الشعب.. وللمرة الأولى سوف تجد السلطة نفسها في مواجهة الجماهير الهائلة الموحدة في أهدافها ومشاعرها ورؤاها. وكل ذلك لن تتقبله السلطة.. ولذا فستعمل على خلخلة الصفوف.. وإثارة الخلافات والنعرات.. وشق الصفوف لإطالة حياتها ولو بضعة أسابيع؟ وفي أيادينا نحن أن نفشل هذا المخطط.. ونحفظ ثورتنا.. ووحدتنا.. اللهم.. هل بلغت؟