عندما رحل الرئيس ديغول من الحكم طواعية لم تخسر فرنسا سوى بطلا قوميا بالنسبة لها, والقصة بدأت عندما نشبت أحداث أيار 1968 التي شاركت فيها جماعات من الطلاب والعمال، والتي وصف أحد المعلقين المشاركين بها بأنهم جماعة من "الضجرانين من استقرار الحياة السياسية و الاجتماعية" اكثر مما هم جماعة من أصحاب المطالب , على أية حال، حاول ديغول حل الأزمة باقتراح إصلاحات اجتماعية رفضها مجلس النواب, فقام ديغول بحله ودعا الشعب الفرنسي إلى استفتاء على مسودة إصلاحات مؤكدا انه سيستقيل من منصبه إذا لم يوافق الشعب على تلك الإصلاحات , وقد جرى ذلك الاستفتاء في الشهر نفسه، وكانت نتيجته سقوط الاقتراحات بأكثرية 52%. ووفى ديغول بوعده فاستقال في اليوم التالي والمفارقة العجيبة أن فرنسا عاشت في فترة ديغول وطوال الجمهورية الخامسة فترة من الازدهار الاقتصادي الذي لم تشهده من قبل، وكانت البطالة شبه معدومة، والخدمات الاجتماعية ممتازة ، ومع ذلك فقد نشبت أحداث أيار 1968 . وبالمقارنة بين ديغول وصالح نجد أن الأول أخرجها من حرب عالمية ونهض بها من الصفر الى مصاف الدول المتقدمة استحق ان يكون بذلك بطلا قوميا , في حين ان الثاني ادخل بلاده حروب وهمية يسترزق بها حينا ويثبت بها حكمه حينا آخر . ما دعاني الى عقد تلك المقارنة المقتضبة أن هناك أصوات نشاز تطالعنا من هنا وهناك تحذرنا من خسارتنا الفادحة حال رحيل الرئيس , متوعدة اليمن بحرب أهلية وفقر وانفصال وهلم جرا من الوعيد الذي ينتابنا جميعا بالخوف على مستقبل اليمن ولكنني عندما أتأمل واقع اليمن لسنوات مضت وحتى اللحظة أرى كل ما يحذرون منه واقعا معاشا, فالحرب الأهلية قائمة منذ سنوات قُتل فيها آلاف من اليمنيين ولا ادري هل الحوثيين من كوكب آخر حتى لا تحسب حروبهم بأنها أهلية , والمناداة بالانفصال لم يتوقف لحظة بل وتصاعدت حدته من السلمي الى العسكري , والفقر اصبح عنوان اليمن والشحاتة سبيلا لحكامه باسم شعبه المنهك ولجيبه الخاص وهو تصرف تأذت منه المنظمات الدولية وفضحته وثائق ويكي ليكس والفساد محميا بجواز دبلوماسي . وحتى لا يعتقد القارئ الكريم بأنني متحامل فمن لسانه ندينه فهو الذي قال يوما ما انه مظلة للفاسدين وارجعوا الى أرشيف خطاباته عام 2006م , وبعد فوزه المشكوك في الانتخابات الرئاسية لنفس العام لم يتخذ أي إجراءات ضد هولاء الفاسدين الذين ذكرهم قبل الانتخابات , وتحت الضغط الشعبي شكل لجنة هلال باصرة وبعد ان رفعت له اللجنة مشكورة قائمة بالأسماء والأموال والأراضي التي نهبها الفاسدون قام بالتستر عليهم وترقية بعضهم , فأضيف ملف الفساد الى ملفات مؤرقة مفتعلة كملف الحوثيين وقضية الجنوب والفقر والقاعدة كملفات مستدامة لا يمكن حلها وتعايشنا معها كيمنيين بألم وأمل , ألمٌ لأننا ظننا ان كل الملفات آنفة الذكر ظلنا وقدرنا المحتوم قبل ان نكتشف ان مفاتحها بيده وانه على كل شيء رئيس , وأمل لاننا مؤمنين بالنضال السلمي وهو أمل دفعنا لان نحفر في الجدار مستميتين ان نفتح ثغرة للنور او نموت على وجه الجدار على حد تعبير الاديب المرموق عبدالعزيز المقالح . عود على ذي بدء ماذا سنخسر برحيل صالح ؟ هل سنخسر سمعة تأذينا بسببها في كل مطارات العالم وسفاراته , ام نخسر وصمة الارهاب تلاحقنا في كل مكان والتي وصمها النظام في جبين كل يمني كتوأمان لا ينفصلان ,ام سنخسر غناً ورفاة في العيش رغيد , ام سنخسر استقراراً جلب لنا استثمارات هائلة حتى اصبحت اليمن بيئة استثمارية جاذبة , ام سنخسر اقتصادا زاهيا وعملة قوية , ام سنخسر أمانة وصدقا مُشاعا ونجلب بديلهما الرشوة والفساد, ام سنخسر تعليما راقيا وبيئة إبداعية وبعده ينتشر الغش والتزوير حسب توقعاتي ان اليمن سيكسب الكثير برحيله ليس على المستوى المعاشي وانما على المستوى الاقليمي والدولي وسيعود على الفرد اليمني بثقته ببلده وسمعته التي أهدرت بجانب تحسن تصاعدي في الاقتصاد ودخل الفرد فلم نحلم قط بالمدينة الفاضلة التي رسمها افلاطون في مخيلته , ولكننا بحثنا عن كرامتنا التي اهدرت اثناء حكم الرئيس علي صالح فلم نجدها ليس في اليمن وحسب بل لاحقتنا في دول الجوار حيث اصبح اليمني مهانا في دول الخليج ,وبحثنا عن رغيفنا فوجدناه في فمه وبحثنا عن مالنا فرأيناه في قصوره الشامخة وسيارات اذنابه وشراء الولاءات وحساباته البنكية ,لقد أضاع فرصاً كثيرة لبناء يمن قوي كان آخرها عام 94م حيث كان يستطيع حينها أن يبني دولة ذات مداميك راسخة، كان سيدخل بها التاريخ . الكوارث لا تُحطّم الشعوب مثلما يحطمها الفساد لقد سنحت له الفرصة الكافية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية لبناء دولة قوية ولم يفعل , فالحزب الاشتراكي انتهى وانتهت القلاقل والفوضى السياسية, والنفط تدفق لأول مرة بكميات جيدة ولم ينافسه احد على دخله ومجلس الرئاسة الجماعي تم إلغاءه كما تفرد حزبه بالحكم بعد فض الحكومة الإئتلافية , وتفرد هو بكل شيء ولم يبقى من عذر يحول بينه وبين بناء الدولة اليمنية الحديثة ولكنه آثر العمل على بناء حكم الأسرة بدلا من حكم الدولة ولتحقيق أمنيته فقد سخّر حزبه ودولته لهذا الهدف ما نشر الفساد في البلاد ونخر في الجماد حتى وصل العباد , ولا يُهلك الناس شيء مثل الفساد حتى الكوارث لا تُحطّم الشعوب مثلما يحطمها الفساد . ارحل وسنكسب سمعة مفادها أن الشعب اليمني حضاري عكس ما روجته عنا للعالم , حضاريون لاننا نملك السلاح وقاومناك بصدور عارية بعد أن صبرنا عليك جوعا وفقرا وخوفا , لن تخسر اليمن بطلا قوميا بل ستكسب حدثا قوميا اسمه التغيير السلمي .