لطالما تغزّل الشعراء بالربيع فكتبوا عن مقدمه و مظاهره القصائد الكثيرة التي تمدحه ، ولعل ما يتبادر للأذهان قصيدة البحتري التي مطلعها : أكَانَ الصّبا ألاّ خَيالاً مُسَلِّما،…أقَامَ كَرَجْعِ الطّرْفِ، ثمّ تَصَرّما التي يقول فيها: أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً…منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا وَقَد نَبّهَ النّيْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى…أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ…يَنِثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا وَمِنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيعُ لِبَاسَهُ…عَلَيْهِ، كَمَا نَشَّرْتَ وَشْياً مُنَمْنَما أحَلَّ، فأبْدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً،…وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ…يَجىءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا يضارعه قول ابن المعتز : أتاك الرّبيعُ بصَوبِ البُكَرْ،…و رفَّ على الجسرِ بردُ السحرْ وجَفّتْ على المَرءِ أثوابُه،…إذا راحَ في حاجَة ٍ أو بَكَرْ و نقرتِ الأرضُ عن جوهرٍ ،…فمنتظمٍ منهُ ، أو منتثرْ و قد عدلَ الدهرُ ميزانهُ ،…فلا فيهِ حَرٌّ ولا فيهِ قُرّ لكن الشتاء لم يمدحه أحد ، لأنه يذكّر الإنسان بالشيخوخة وتقدم السن ، فتراهم يقولون شتاء العمر وشتاء الأمر إذا أصبح هرما منتهيا.. يقول الإمام الزمخشري - صاحب تفسير الكشاف - رحمه الله أقبلتَ يا بردُ ببردٍ أجودِ ... تفعلُ بالأوجه فعلَ المبردِ أظلُّ في البيتِ كمثلِ المقعدِ ... منقبضًا تحت الكساءِ الأسودِ لو قيلَ لي أنت أميرُ البلدِ ... فهات للبيعة كفًا يعقدِ ولعل أجمل مقارنة بين الصيف والشتاء قدمها أبو علي بن رشيق بقوله : فصلُ الشتاء مبينٌ لا خفاءَ به ... والصيفُ أفضلُ منهُ حين يغشاكا فيه الذي وعدَ اللهُ العبادَ به ... في جنة الخلدِ إن جاؤوه نساكا أنهارُ خمرٍ وأطيارٌ وفاكهةٌ ... ما شئتَ من ذا ومن هذا ومن ذاكا فقلْ لمن قال لولا ذاك لم يك ذا ... إذاً تفضّل على أخراك دنياكا سمِّ الشتاءَ بعباسٍ تصبْ غرضًا ... من الصوابِ وسمِّ الصيفَ ضحّاكا لكن شاعرنا الاستاذ عبدالله البردوني ذكر في ديوانه الفصلين الربيع والشتاء في قصيدتين منفصلتين ؛ الأولى من بواكيره في ديوان من أرض بلقيس بعنوان سحر الربيع يقول فيها : رصّع الدنيا أغاريدًا و شعرا…و تفجّر يا ربيع الحبّ سكرا وافرش الأرض شعاعًا و ندى…و ترقرق في الفضا سحرًا و إغرا يا ربيع الحبّ لاقتك المنى …تحتسي من جوّك سحرا يا عروس الشعر صفّق للغنا…ترقص في ضفاف الشعر كبرا فهنا الطير تغنّي و هنا… جدول يذري الغنا ريّا و طهرا و صبايا الفجر في حضن السنا …تنثر الأفراح و الإلهام نثرا و السهول الخضر تشدو و الربّا …جوقة تجلو صبايا اللّحن خضرا فكأنّ الجو عزف مسكر …و الحياة الغضّة الممراح سكرى و الرياحين شذيّات الغنا …تبعث اللّحن مع الأنسام عطرا و كأنّ الرّوض في بهجته…شاعر يبتكر الأنغام زهرا و كأنّ الورد في أشواكه …مهج أذكى عليها الحبّ جمرا و كأنّ الفجر في زهر الربا…قبلة عطريّة الأنفاس حرّا ويسترسل في هذا النفس الباسم إلى آخر القصيدة لكنه في الثانية الموسومة ب ( شتائية) وهو يصف المدينة والبرد يكتسيها في الليل ، فيقول : البردُ أبردُ ما يكون…والليلُ أسهدُ ما يكون وأشذُّ من شبقِ الرصاص، … ومن غراباتِ المنون البردُ يسترخي كأفيلةٍ …حطيمات المتون ينسلُّ، يستشري، له…في كل زاويةٍ شئون ومفاصلُ الأكواخِ ترسفُ…تحت أحذية الغبون والحلمُ يلبسُ مِدْيةً …والطيفُ يزفر كالأتون وهناك ترتجفُ الكوى…وهنا يجولُ المخبرون تصفرُّ أوردةُ الرؤى …تسودُّ وسوسةُ الظنون تثبُ العيونُ بلا وجوهٍ … والوجوهُ بلا عيون فتخافُ جدرانُ المدينة … أن يفيقَ الميتون النومُ متهمٌ، ومتهمٌ … سهادُك يا جنون والحبُ متهمٌ، ومتهمٌ … أسى القلبِ الحنون والصوتُ يحترفُ الخيانةَ،… والسكوتُ كمن يخون يا بردَ (كافات الحريري) … لا يراها الطيبون
صدقت يا بردوني فالطيبون لا يرون (كافات الحريري) السبعة مكتملة ! والواقع أن الكافات السبعة ليست للحريري إنما هو نقلها في مقاماته عن قائلها ابن سُكّرَة ، فقال الحريري: وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ. وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ. أما البيت لابنِ سُكّرة فقوله : جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِه ... سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حبَسا كِنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكاسُ طِلاً ... بعْدَ الكَبابِ وكفٌ ناعمٌ وكِسا الكِنٌّ هو كل ما يقي من البرد كالأبنية ونحوها ، أما الكانون فهو الموقد، وكأس طلاء هي الخمر .. ***