من تونس انطلقت رياح التغيير منذ أن أضرم البائع المتجول محمد البوعزيزي النار على نفسه في الأول من ديسمبر عام 2010م, لتهب بعد ذلك على عدد من الدول العربية، ومنها اليمن، لكن هذه الرياح سرعان ما أصبحت عواصف مدمرة في بعض المجتمعات العربية, وبقيت تونس تحت تأثير رياحها المتحركة الناعمة التي أنعشت روح الحرية والديمقراطية, وتأسيس قواعد المستقبل التشاركي الذي يبنيه كل أبنائه. ولم تكن الأجواء التونسية خالية في بعض الأوقات من الزوابع التي هددت السلم الاجتماعي والسياسي, أثناء الاغتيالات التي طالت عدد من الناشطين والسياسيين, والحوادث الأمنية التي شهدتها بعض مناطقها، غير أن التونسيين حددوا طريقهم دون نكوص أو تراجع، نحو الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة، واستطاع التونسيون أن يمضوا قدما باستحقاقاتهم الانتقالية إلى الأمام, متوجين آخر فصولها بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي ستنتهي بجولة ثانية منتصف ديسمبر الحالي. ولم تكن الحالة التونسية بعيدة بمطالبها وأهدافها عن الحالات التي شهدتها الدول العربية التي طالتها رياح التغيير ومنها اليمن، فالكثير من المجتمعات العربية تعاني من البطالة، والفساد، ، والفقر، وانتهاكات في حقوق الإنسان، والحريات العامة، وضعف أداء أجهزتها القضائية والتنفيذية، وبناء هياكل للنفوذ والوجاهات، كل ذلك شكل بيئة ضرورية للتغير . وتوصلت الدول التي شهدت تغيرا سلميا إلى توافق لما يسمى خارطة طريق تحقق أهداف التغيير، والانتقال إلى وضع آمن ومستقر، ومنها اليمن التي سنحت لها المبادرة الخليجية فرصة الانتقال السلس، وصنع ملامح المستقبل على ضوء مخرجات الحوار الوطني، وإنجاز الدستور وفق تلك المخرجات، تمهيدا لا جراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قادمة، لكن ما نلمسه أن هناك محاولات لتدمير كل تلك الطموحات، منعاً للسير إلى نهاية الطريق ؟؟؟ أما مسيرة الانتقال السلمي في تونس فهي تتقدم بطريقة أفضل من اليمن مقارنة مع أهم مكونين رئيسيين، وهما الدولتان، ففي تونس ظلت أعمدة الدولة منصوبة وقوية، بينما الدولة في اليمن تعرضت للإنهاك، والضرب المبرمج . ورغم التشابه النظري في ملامح خارطتي الطريق اليمنيةالتونسية، إلا أن هذه الأخيرة قطعت شوطا كبيرا نحو إنهاء المرحلة الانتقالية التي بدأت بعد الإطاحة بالرئيس بن علي في يناير 2011م، فكانت الخطوة الأولى انتخاب البرلمان التي حققت فيها حركة النهضة الإسلامية الأغلبية، لكنها لم تستأثر بالسلطة، فاشتركت مع أحزاب علمانية في حكومة ائتلافية أو كما كان يطلق عليها التوانسة ب(ترويكا). والخطوة الثانية إعداد مشروع الدستور، وما صاحبه من توتر وعنف كادت تعصف بالعملية السياسية، والخطوة الثالثة تمثلت بالحوار الوطني لمناقشة الدستور، وتم اعتماده بعد جدل طويل من قبل الأطياف السياسية والنقابية والاجتماعية، امتدت من منتصف 2013م وحتى أول يناير من هذا العام، كما وافقت الحكومة بقيادة حركة "النهضة" على التنحي لصالح حكومة تكنوقراطية. وأطلق تأليف حكومة مؤقتة في يناير المرحلة الرابعة من الفترة الانتقالية, وقد شهدت هذه الأخيرة إنجازات رئيسية أبرزها اعتماد قانون الانتخابات . لاشك أن تونس شهدت هزات اقتصادية، وخطاب إعلامي متشنج خلال الفترة الانتقالية لكن ظل كل ذلك في الإطار السلمي, والسبب وجود دولة متجذرة بمؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية, وحرص كل التونسيين أحزابا ومنظمات عدم التفريط بها، فالجيش ظل المؤسسة الوطنية الحامية, ليس خاضعا لنفوذ قبلي أو عشائري أو عائلي أو فئوي, ومثل ذلك مؤسسات القضاء, والنقابات, والمنظمات الفاعلة, كما أن الشعب التونسي خالي من العقد والأمراض الثأرية, والعصبيات القبلية, وتلعب المنظمات المدنية والنقابات دورا رئيسيا في تشكيل الوعي المجتمعي الخلاق .وفوق هذا وذاك كان ولا يزال التونسيون يعالجون مشاكلهم, ويبنون مستقبلهم بأنفسهم دون تدخل مباشر من الخارج . فتونس تقدم اليوم أروع مثال حضاري على كيفية صوابية مسيرة الانتقال إلى نظام جديد في جو من التآلف والتعاضد ونبذ الفئوية والحزبية الضيقة خدمة للمصلحة الوطنية. إنني بهذا الموضوع لم أحاول أن استغرق كثيرا للمقارنة لما هو حاصل باليمن من أحداث مزعجة، تكاد تعصف بالبلاد إلى الهاوية،فالكل يلمس ذلك ولا تحتاج إلى دليل, ولكني أقدم نموذجا انطلقنا خلفه، (تونس) هو الآن يسير بطريق النجاح والتقدم, وبنفس الوقت أمامنا نماذج من دول أخرى انحرفت إلى الفتن الملتهبة ربما نكون أسوأ منها، والخيار الأخير لنا كيمنيين أيهما نختار المستقبل - والفرصة متاحة لذلك- أم الحروب والاقتتال والضياع في الثارات والتخلف. "الثورة"