دعاني صديقي إلى مائدته الدائمة، بشرني أن فيها ما لذ وطاب. وما لذ وطاب، أمرهما مرهون بالمزاج العام، وأنا من العام. والمزاج فاسد، من أفسده معروفين..المعروفين إذن. وجوه المعروفين ظلها على الأرض، لا يحتاج إلى شرح، والظل الرمادي الملعون. وهكذا مزاج عام بحاجة إلى شيء من الفرح..السعادة، شيء من القدرة على كسر المزاج، ولملمة الجراح. الجراح إذا تركته ينزف، خاتمته ذهاب العقل، ليته كان الموت، الموت عز، أعزه في هكذا مزاج، ليته كان للمعروفين. ودعوة صديقي مشروطة، المشاركة في إحضار ما لذ وطاب. لن يكون لذيذا، ولن يطيب، إلا إذا نثرت عليه ما يذهب عني والحاضرون منغصات المزاج، لحظات نسرقها من المعروفين، من أفسدوا مزاجنا. قرعت باب صديقي عند الساعة المضروبة سلفا، على رأسي ما نثرته عليه، لعله يرفسها، لحظات نعيشها بعيدا عنهم، أبشع ما خلق الله. انتظرت ثوان، كنت بعدها، بعده إلى مائدة الطعام. وقفت، لم تكن بعده، كانت عيني تجول على المكان: نوافذ صغيرة مفتوحة أعلى الجدار، بالكاد يتسلل منها نور خافت. دهان الجدران يبعث على الكآبة، وبدون لوحات تبعث البهجة في المكان. وعلى الأرض تمتد المائدة، وحولها المدعوين. المائدة فيها ما لذ وطاب، غير أن المكان ينبئ عن الوجه الآخر للمزاج العام. رمقني صديقي بنظرة جادة، فصلتني عنه عدة خطوات، ثم قال: - أجلس، أنت آخر المدعوين. جلست، أضع من على رأسي على المائدة. انتهيت، نهاية انتظار المنتظرين، دعاهم لتناول ما على المائدة. لا أدري، كانت أيادينا طويلة، كل واحد منّا يتناول من طعام زميله على المائدة. أتذوق من حقهم، المرهون بالمزاج، ما هكذا أريد، أنا الملوث طوال اليوم بخبث المعروفين. مددت يدي إلى حقي، لحظات قليلة، كان المنثور يسري مسرى دمي، حتى إذا وصل إلى عقلي ضججت بالضحك، وثلاثة غيري مثلي يضحكون. أمسك الحاضرون أيديهم، الدهشة مرسومة على عيونهم، تجول علينا نحن الأربعة، أحدها دهشة عين صديقي..حتى قال: - الضحك هنا محرم. رد أحد الضاحكين: - ذق من طعام صديقك. - كلكم أصدقائي. - الأخير. ذاق من طعامي، لحظات يتحسس بلسانه، كان بعده يزم شفتيه. لم يستطع مقاومة الضحك. قام بحركة هستيرية، يضرب رأسه على الحائط، الألم العدو الأول للضحك، لا شيء يصرع الضحك مثل الألم. سالت دمائه على الحائط. أخرج كرتا أبيضا من جيبه. لوثه بدمه، الكرت الأحمر رماه على وجهي. قبلته، ثم حفظته في جيب معطفي الداخلي. جرحني، الجرح الجميل، أهداني كرت الخلاص، لن أعود ثانية إلى مائدته. غادرت للتو. لم يخلصني كرته، السماء الملوثة بخبثهم، أول ما لمحته عيني ساعة أن وضعت قدمي على رصيف الشارع. ليته كان الخلاص، الخلاص منهم، أعداء الحياة، أفسدوا حياتنا، أكره من في الأرض، الملعونين حتى الرمق الأخير، أو شروق الشمس، شمس الخلاص، الخلاص المجيد. وقفت أنظر إلى السماء، لم أر شمس الخلاص، خبثهم ليس له حدود، والسماء ملوثة بخبثهم الرمادي. عدت أحث الخطى، أبحث عن المكان المفقود، هناك سأنتظر الشمس، شمس الخلاص المجيد. مارس 2015