ما من تفسير لحالة الضياع والتوهان التي نعيشها اليوم غير تفسير واحد وهو: أننا فقدنا بوصلة الحياة بعد أن توقفت ذاكرتنا الوطنية عن أداء مهاما، إذ لم تعد هذه الذاكرة المثقوبة ترى في الوطن غير على أنه الأنسب للاحتراب ولتصفية الحسابات ولحبك المؤامرات ولتمرير الأجندات على تنوعها واختلاف مشاربها، والتي ما كان لها أن تمرر على هذا النحو لولا وصولنا إلى هذه الحالة من فقدان الذاكرة!. وحدها الشعوب التي تُصاب بخلل في الذاكرة تدفع أثماناً باهظة من عيشها ومن أمنها ومن كرامتها... وحدها هذه الشعوب في ظل ما يلحق بذاكرتها من عطب، تعجز عن التمييز بين كثير من البديهيات، بين الألوان مثلاً، وبين المسميات وبين الدولة واللا دولة. في ضوء ما يجري في واقعنا اليمني من فوضى غير مسبوقة في التاريخ دونما وميض أمل يلوح من بين ركام هذه الفوضى يُنبئ بقرب تبددها ودونما مؤشر في الأفق يوحي بدنو نهايتها.... في ضوء هذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم أشك كثيراً في سلامة الذاكرة لأغلب سكان هذا البلد، وإلا لما أستمر هذا الواقع المزري على ما هو عليه. ما نحتاجه كشعب تعرضت أدمغته على امتداد سنوات طويلة لكثير من الصدمات ولكثير من التشويش ولكثير من غزوات التجهيل والتضليل ولكثير من فيروسات الإحباط والتقزيم، ما نحتاجه هو لعملية "فرمتة" نتخلص من خلالها من الفيروسات التي علقت بالذاكرة الجمعية؛ كي تعاود هذه الذاكرة التفكير والتمييز وتذكر الأشياء سيما تذكر الأحداث التي يمكننا البناء عليها فيما إذا كانت أحداثاً وطنية تستحق التدوين بأحرف من نور، أم أحداثاً محبطة مكان تدوينها الصفحات الموشحة بالسواد. ما لم نستعيد كشعب الذاكرة الوطنية لنبني عليها حاضرنا ومستقبلنا ومستقبل الأجيال من بعدنا فإننا مقدمون على مزيد من الآلام والأوجاع ونزيف الدم والتشرد والضياع والتقزم وفقدان الهوية. ما لم نستعيد كشعب ذاكرتنا الوطنية وبالتحديد اليوم قبل الغد، فلربما سنستفيق يوماً على وطنٍ يدار عن بُعد بأكثر من ريمونت كنترول! عندها كم سيكلفنا هذا التشعب في المصالح وفي إدعاء الاستحقاق جراء المشاركة في تطاحننا من جهدٍ ومن نضال في سبيل العودة بالوطن إلى مربع السيادة الوطنية، خاصة في هذا الزمن الذي لم تعد فيه الشعوب مشغولة بمثل هكذا معضلة، أكثر من انشغالها بكيفية حجز مقاعدها في ركب الدول المتقدمة والمتحضرة. ما أخشاه في ظل ما نحن عليه اليوم من فوضى، ومن تمزق ومن انعدام للرؤيا، ومن تعدد للأطماع والأجندات الخارجية، ما أخشاه أن يتشضى هذا البلد وأن يفقد هويته في دوشة هذه الفوضى العارمة، التي تجتاحه، سيما إذا ما ظلت الذاكرة الوطنية على ما هي عليه من غياب ومن بُعد عن ملامسة الواقع الذي ينذر بما هو أسوأ مما هو عليه اليوم. لا أدري كم هي الثورات التي نحتاجها، وكم هي الدموع التي يجب أن نذرفها، وكم هي الدماء التي يجب أن ننزفها، وكم هي الاضحيات التي يجب أن نقدمها قرباناً لكل المتأمرين علينا في الداخل وفي الخارج؛ كي ننعم برغيف عيش كريم، وبحياة آمنة ومستقرة أسوة بكل شعوب العالم التي عبرت بها ثوراتها إلى القرن ال 21 دون الحاجة لثورات آخرى ولمخاضات هي الأكثر دموية والأكثر إيلام؟؟!. لا أحد في العالم متفرغ اليوم لتضميد جراحاتنا أو لإيقاف الدمع من مقلات أطفالنا وثكالانا؛ طالما الكُل مشغول ببناء ذاته، باستثناء نحن ممن فقدنا ذاكرتنا الوطنية.. مشغولون بتناحرنا والتفنن في إيغال حرابنا في أجساد بعضنا، وفي نزع لقمة العيش من أفواه ضعفائنا. إذا ما استمرينا على هذا النحو من فقدان الذاكرة، ومن الافتقار للقيادات المخلصة في توجهاتها الوطنية، فلربما سنشهد ثورات وثورات، قد ستتجاوز كل ثورات الأرض، البشرية منها والطبيعية، بيد أنها في المجمل ستظل الأسوأ بموازاة السوء الذي ألحقته بالوطن وبأهله على السواء. [email protected] .... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet