الإهداء: إلى المفكر والمناضل النبيل د/أبوبكر السقاف/ أستاذاً، ومعلماً، وصديقاً، هو بحق رجل التنوير الفكري، والسياسي، والديني، ورمزاً لفكرة الحرية، والمساواة، والعدل، الرجل الشجاع والصادق الوفي تجاه وطنه ورفاقه الذي تعلمنا منه معنى أبجدية المقاومة، وليس الهروب، والانسحاب من الفعل في الحياة، حين يكون ذلك واجباً مقدساً، فلم يترك يوما أمور الحياة نهبا للعفن والانحطاط، كان في قلب المواجهة بالكلمة الخالدة وبالفعل النبيل، لم يترك قضايا الناس تديرها اللامبالاة، وانعدام المسؤولية، والفوضى، وتتحكم بها قبضة القتلة واللصوص وفسدة القيم من الكتبة المأجورين . كان قائدا حزبيا عظيما دون انتماء أو موقع حزبي، ذلكم هو القائد بالفعل وليس بالقوة، حسب التعبير الارسطي. إليه في رحلة تعب العمر ومحنه الإنسانية القاسية ،التي يواجهها بصبر عزة النفس وسمو كرامة الإنسان الحق، دون وهم بمجد زائف ونجومية زائلة. مع كل المحبة والاعزاز والتقدير. أ. خلفية فقهية كلامية إن موضوع وقضية الإمامة، والخلافة – وأنا هنا أساوي بينهما في المعنى والدلالة السياسية، والواقعية، وليس الدلالة الذهنية الفكرية الدينية والسيكلوجية – أي بين الإمامة، والخلافة، لتوحد وتجسد معناهما في واقع الممارسة في شيء واحد هو الحاكم، أو الخليفة، أو الملك وهي في تقديرنا موضوع، وقضية من أعقد وأخطر المسائل الإشكالية ليس في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي فحسب، بل وفي تاريخ المعرفة الكلامية -علم الكلام بمفهومه الواسع-، والفقه، وما يزال حتى اللحظة يطفو على سطح بعض الأقوال، والكتابات خطاب الخلافة، وكأننا أمام محاولة لإعادة إنتاج ثقافة وواقع فتنة كبرى جديدة في شروط عصر مغاير، إن موضوع وقضية الإمامة في تجليه السياسي الواقعي التاريخي يكشف بوضوح إلى أي مدى توحدت النظرية والفكرة بالتطبيق، وإلى أي مدى جاء، وكأن الفكر الفلسفي والكلامي – علم الكلام- والفقهي المذهبي بعد ذلك تجسيد لوحدة الفكر بالواقع، في صورة الصراع الجاري حول الإمامة، والخلافة، فمسألة الإمامة، والخلافة، صحيح أنها بدأت بعد أن توفي الرسول الكريم r (توقف الوحي، والنبوة) وتجسدت في صورة ما جرى في (سقيفة بني ساعدة) والطريقة المعروفة لنا جميعاً التي جرى فيها حل الخلاف، أو الصراع، والتي نوجزها في التالي: إن السقيفة وما جرى داخلها من مداولات وجدل سياسي -ليس دينياً- هو حوار حول قضية السلطة وتقاسمها بين طرفي القوة والنفوذ في ذلك الحين، والذي تحول بعد ذلك إلى صراع أو (فتنة كبرى) كما يسميها البعض -أحمد شوقي، وطه حسين- وهي الخلافة التي تحولت إلى خلاف كما سماها د. عبد العزيز المقالح، الصراع الذي كان عنوانه البارز المهاجرين (قريش) والأنصار() (الأوس والخزرج)، وهي التي وضعت -بصورة نظرية عامة- حجر الأساس لدولة الخلافة العربية الإسلامية في صورتها الجنينية الأولى، وكان لقرب عهدها بالرسالة والنبوة (زمنياً) أثره العميق في اتِّصافها (خلافتي أبو بكر، وعمر) بالروح الدينية الإسلامية الصافية، ونقاوة الممارسة الإسلامية الأولى التي اشتبكت وتوحدت مع نفائس وذخائر روح دولة الرسول محمد ص، إضافة إلى الصفات الذاتية والسلوكية الشخصية لكل من أبي بكر، وعمر، ويكشف الجدل السياسي التاريخي في السقيفة حول من يخلف الرسول في الإدارة، والسياسة والقضاء بين المسلمين، إننا أمام قضية سياسية مباشرة، وليست دينية بأي وجه من الوجوه ،هي مسألة بناء الدولة التي لم يترك الرسول العظيم فيها أي وصية، أو تعيين، بل ولا حتى إشارة أو تلميح في من يخلفه، أو يأتي بعده، بصرف النظر عما تقوله بعض الاجتهادات الشيعية المذهبية الضعيفة التي ظهرت متأخرة بعد ذلك، التي لا تدخل إلا في دائرة الصراع السياسي والايديولوجي المذهبي الفقهي (سنة، شيعة بعد ذلك)...، ألم يقل أبو بكر الصديق في البداية منا الأمراء، ومنكم الوزراء، وقالت الأنصار: منا أمير،() ومنكم أمير، ومنذ السقيفة بدأت الفكرة الجنينية الأولى، لفكرة وقضية التشيع، ولكنها لم تكتمل وتأخذ صورتها وملامحها الواضحة إلا مع بداية نهاية خلافة عثمان ومقتله، من قِبَل من كانوا يرون في أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة، ورفضاً لأسلوب إدارته السياسية والاقتصادية للخلافة وللشأن العام، كما نسميه اليوم، حيث جاءت سياسات عثمان بن عفان التي ارتكزت واعتمدت على العصبية الأموية والتي شكلت كما تقول الكثير من الكتابات التاريخية، انقلاباً على خلافتي أبي بكر، وعمر على وجه التحديد، ليصل معه التشيع السياسي أولاً إلى قمة تعبيره عن نفسه، حتى تحوله بعد قتل علي، والحسين بالطريقة الدرامية (المأسوية) التي عرفناها، إلى ظاهرة فكرية ومذهبية / سياسية، وعقيدة راسخة، وتحدد بعد ذلك في صورة خلاف وصراع مذهبي (شيعي، سني) وكان (موضوع الخلاف الأساسي بين الشيعة والسنة هو: هل الدولة واجبة وجوباً دينياً أو مصلحياً) يرى أهل السنة أنها وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم بزعيم، يمنعهم عن التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم "بينما يرى الشيعة أن الإمام يقوم بأمور شرعية كان جائزاً في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجباً لها" "والخليفة عند السنة يخلف الرسول في السلطة الزمنية فقط، وأحكام الرسول السياسية كانت اجتهادية، والإمامة ليست أصلاً من أصول الدين" أما الشيعة فجميعهم متفقون أن الإمامة ليست من المصالح العامة، التي تفوض في نظر الأمة، ويعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام() . لقد أخذت مسألة وقضية الإمامة، والخلافة في تطورها أبعاداً جدلية مختلفة فكرية، فقهية، وكلامية (علم الكلام) ومحاورات نظرية أخذت في بعض تعبيراتها مناحي فلسفية في صورة بعض اتجاهات الخطاب الاعتزالي (المعتزلة)، والصوفية عند بعض رموزها، بعد ذلك، في مناقشة مسألة الإمامة، والخلافة، وما رافق ولحق ذلك من اجتهادات فكرية فقهية منذ الخوارج شيعة علي (والقول لا حكم إلا لله) حتى تشكل الشيعة كحركة سياسية، ومذهبية بعد ذلك، وصولاً إلى ما نسميه اليوم مذهب أهل السنة، (المذاهب الأربعة، المالكية، الشافعية، الحنفية، الحنبلية)، واجتهاداتهم المختلفة حول مسألة الإمامة، والخلافة، ولأن الحيز لا يتسع للدخول في بحث بعض التفاصيل فإننا سنركز على الاتجاهات العامة الفكرية لتطور مسألة الإمامة والخلافة بصورة مكثفة موجزة، وبما يفي بالغرض، ويحقق هدف البحث في حدوده الدنيا. لقد قدمت فرقة أو جماعة "المرجئة" اجتهادها حول مسألة الحكم (عندما قامت بفصل الدين كعقيدة عن المعاملات)، حيث رأت وقدرت المرجئة أن المسلم عضواً في الجماعة حتى لو ارتكب المعصية، وهل هو من أهل الجنة أم من أهل النار لإخراجه من جماعة المسلمين، فهذه مسؤولية الله، ويُرجَأُ الفصل فيها إلى يوم الحساب، والقيامة(...) ورفض المرجئة اعتبار مخالفة بني أمية للشريعة سبباً معقولاً لإنكار بيعتهم كزعماء سياسيين، ورأوا أن عثمان، وعلي، ومعاوية يعملون لله ،وهو وحده الذي يحاسبهم() وهو تخريج سياسي، وأيديولوجي فقهي، وعملي، يؤدي غرضين أو يحقق هدفين في نفس الوقت، الأول: فصل الديني، عن السياسي (السلطة) أي أنه شكل عامل فاصل، وحَّد، بين الدنيوي الزمني، وبين الديني، الإلهي، والثاني: تجاوز سياسي واقعي (فقهي) لمحنة رأي الخوارج الداعي للحرب من خلال شعار (لا حكم إلا لله) أو (إن لا حكم إلا لله) التي أنزلت قرآنياً، وعملياً (كتنزيل) في أهل الكتاب، حيث يعطي الشعار للخوارج حسب تأويلهم الايديولوجي حق أخذ الحق وتنفيذه بأيديهم، على قاعدة، وحدة الدين، والسياسة، أو وحدة الدين، والدولة . ورأى المعتزلة في خطابهم الكلامي، حول مرتكب المعصية، أو مرتكب الكبيرة حسب تعبيرهم أنه لا يخرج نهائياً من جماعة المسلمين ويبقى مسلماً، وليس كافراً، ويبقى في حالة خاصة منسحباً، أو على جنب، وبذلك يكون في منزلة بين المنزلتين، وهو موقف فكري كلامي غير واضح في موقفه في علاقة السياسة، بالدين، والدولة، بالدين، وهو مؤشر على ابتعادهم من ذلك الحين عن الصراع السياسي (السلطة) وبقائهم محافظين على نقائهم الفكري الكلامي، على عكس موقفهم بعد ذلك في محنة (خلق القرآن) وتورطهم في العلاقة بالسلطة فترة المأمون . أما الأشاعرة، فقد قدموا رؤية فكرية فقهية سياسية، برجماتية -حسب توصيفنا لها اليوم- هي عملياً إقرار بالأمر الواقع وهي محاولة لتكييف النظرية لصالح واقع الإمامة، والخلافة (السلطة / الدولة) القائمة، وهم من أسسوا بعد ذلك لما نسميه مذهب أهل السنة، في تطوره الفكري الفقهي المبرر والمشرعن لفكرة وقضية الخلافة المستبدة، وجعلوا من ثقافة طاعة ولي الأمر، بما فيه ولي الأمر الظالم، والفاسق، أيديولوجية فقهية سياسية، وبرروا للخليفة توريث الحكم لأبنائه حفاظاً على وحدة الجماعة والأمة، خوفاً من (فتنة تدوم) أي "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم" أو"من اشتدت سلطته وجبت طاعته" كما يقولون، حتى قولهم إن الاستبداد والظلم أفضل من الفوضى، وبذلك اسسوا نظرياً وفقهياً، لقدسية مبدأ الخلافة المستبدة (الدولة) في الممارسة الواقعية . أما الإمام زيد بن علي مؤسس المذهب الزيدي فيرى (أن الإمامة مسألة عملية لا سلبية، فيجب أن يقود الإمام شيعته في الكفاح دون إخفاء أو كتمان) () أي دون "تقية" كما هو عند العديد من مذاهب الشيعة، وهنا يفترق الإمام زيد عن جميع مذاهب الشيعة بقوله بالخروج على الإمام الظالم، وعدم أخذه "بالتقية" ومن أن الإمامة، والخلافة، قضية سياسية عملية كفاحية تؤخذ بالغلبة والقوة (الخروج) وليست من العقيدة، أي فصل الدين، عن السياسة، والدولة، وفصل الخلافة والإمامة، عن الدين، -بهذه الصورة أو تلك- كما أنه يختلف عن مذاهب الشيعة الأخرى في موقفه من أبي بكر، وعمر، حيث يقول الإمام زيد (وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله r من الناس، فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس -يقصد زيد أبا بكر، وعمر-الباحث- وعملوا بالكتاب والسنة) (). إذاً نحن أمام قضية سياسية صراعية لا صلة لها بالدين، فالخلافة في الإسلام قضية مرتبطة ببناء السلطة والدولة، وليس الدين، (أي قضايا المعاملات) ولذلك يفتتح الإمام الشهرستاني عنوان أحد فصول كتابه (الملل والنِّحَلْ) بالقول (واعظم خلاف بين الأمة، خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة) ()، "خطب معاوية بأهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة اتراني قاتلتكم على الصلاة، والزكاة، والحج، وقد علمنا أنكم تصلون، وتزكون، وتحجون، ولكن قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون"(). وفي خطاب أبي بكر الصديق لتوليه الخلافة يقول(قد وليت عليكم -وفي رواية أخرى أصبحت حاكماً عليكم-الباحث- ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني(...) أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله)() وخطاب تولية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين يقول: (إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني) جميعها أدلة نظرية وفكرية فقهية، وعملية، جاءت شواهد وحقائق السياسة والتاريخ لتؤكدها وتسندها مع الخليفتين (أبي بكر، وعمر) ولتنقضها وتؤكد عكسها مع معظم الآخرين من الخلفاء، ذلك أن الشريعة في النظرية (النص) شيء، والشريعة في واقع الممارسة السياسية، والحكم والدولة شيء آخر. يقول الإمام علي رضي الله عنه في "نهج البلاغة" (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما هي الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن أجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج على أمرهم خارج بطعنا أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه)، وفي ذلك يشرح ويقول أبي الحديد: (أعلم أن هذا الفصل دالاً بصريحة على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة كما يذكر أصحابنا المتكلمون) (). وهو هنا يقصد المعتزلة، حين يقول (المتكلمون)، الخلافة، والإمامة، عند جميع مذاهب السنة قضية حياتية (دنيوية) تقوم على الاختيار وليس النص والتعيين، كما عند الشيعة الإمامية، الجعفرية، والإثنى عشرية. فقد قال معاوية بن أبي سفيان: (وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبفضل مني)، وظاهر هنا أن المغالطة في القول جاءت من اعتبار نفسه خليفة الله لا خليفة لخليفة، خليفة رسول الله" ().