ما زلت أتذكر جيداً تلك المرحلة المنغلقة من حياتي التي تخللت سنوات المراهقة، تلك المرحلة التي بدأ زغب التفكير العقيم في تحوصل المعتقد الديني في ذهنيتي القاصرة حين بلغت الخامسة عشرة وامتدت إلى حدود التاسعة عشرة، إلا أن أعلى ذريعة لها كانت في وسط المسافة المنضوية تحت العتمة التي سادت لسنتين كاملتين، أي من 16-17 عاماً، وهي الفترة التي ندمت على بعثرتها – بعد ذلك – حين وجدت أني كنت فيها محشوراً في أقصى حدودٍ ضيقة لممر مظلم، وفي تلك السنتين أيضاً يبلغ الشخص فيهما – أي شخص – أعلى درجات التوق لنيل المزيد من دفق يستريح في الوجد تواءم معه منذ سنوات. كنت أشعر في فترة ذروة التجلي تلك أني أقترب إلى الخالق من كل الذين يسبحون حولي دون استثناء، سالكاً درب "السلف الصالح" بتقليد دقيق لهيئتهم التي ظلت كتب التأريخ لزمن طويل تصف محياهم المهيب وتردد مآثرهم النبيلة، ومطبقاً لنهجهم الأزلي في ممارسات المباح والمحرم.. وأني كلما ابتعدت عن ترف العيش وخاصمت تقنيات العصر، محافظاً على فطرتي السمجة التي لم يصقلها صدام الأفكار المستفزة وزحام الهواجس المتصارعة، كلما أحسست أني أكثر قرباً من الله، حتى بوجود أشخاص بقربي مقنعين بشدة إيمانهم وعمق إخلاصهم للدين.. إلا أني كنت أشك في مدى ذلك الخشوع وأنهم ليسوا كما يجب، لاحتوائهم على اقتصاص من شيء لا أفهمه، يقف معوِّقاً أمام إكتمال إخلاصهم المتباهي. ظل يخالجني أمل في وضعي المتكلس ذاك أني قد أصطفى من بين كل الناس الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم، لأكون وصياً على الدين وخليفة الله في أرضه، أو ربما أكون مؤهلاً لأغدو المهدي المنتظر. لكني بعد وقت ليس بكثير.. اكتشفت أن الوضع الحالم الذي مررت به، لا شأن له بالقرب أو البعد من الله، بل أشد إسفافاً من هذين البعدين، فقد كنت مطموراً تحت أكوام كثيفة من التشويش والبلادة، حينما تطأ ثراه أقدام مرحة لأناس يستمتعون بأريج الطبيعة ويعبرون المجرى الحقيقي للحياة التي ولد الإنسان ليعيشها. لا أذكر بالتحديد متى كانت بداية تأثري بهذا التيار الجامد، إلا أني أعرف جيداً والذي أنا متأكد منه تماماً أني تربيت على يَدَي والديَّ تربية دينية رغم عدم تشددهما – ولا زالا يحافظان على نفس ذلك النسق المرتخي حتى الآن، كما هي الحالة عند معظم أبناء الأسر التقليدية في المجتمعات المسلمة، حيث لا يكون التزامهم بأمور دينهم مؤكداً ودقيقاً، بل يمسكونه على نحو هين وينقلونه عبر أبنائهم بطريقة ودودة بنفس الشكل اللين السائرون عليه عن طريق تربيتهم. لكن أعتقد أن سبب ذلك الميول والانشداد لهذا الأسلوب الجاف الذي جاء متأخراً بعد ذلك باستهوائه لروحي باستبداد مكتسح.. أن مسقط رأسي كان في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية.. منشأ الفكر الوهابي، البؤرة المستبدة لإنتاج فوج هائل من الأشخاص لا يشك أحد ما أنهم هربوا من عصور غابرة أسقطهم التاريخ على حين غفلة منه وقذفهم عبر ثقب مجهول ليجدوا أنفسهم في زمن ليس فيه شيء إطلاقاً يمثل لهم جزءًا من الانتماء، ومضوا هكذا يزداد عددهم ويتكرر الحال الممل لسنوات، نفس الخامة، طريقة التعبير، توحيد الهيئة.. كلهم لفترة طويلة ظلوا على نفس الشاكلة وخرجوا من تحت نفس العباءة الوقورة.. ملتحين، دعاة، السواك لا يفتأ يترك أفواههم، والثوب الأبيض الذي يقف طوله عند منتصف الساق. التحقت في الرياض – المدينة التي عشت فيها طفولتي كلها – بحلقات تحفيظ القرآن الكريم في أحد المساجد التي كانت تقام بعد صلاة العصر من كل يوم، كنت حينها في الصف الرابع الابتدائي، وحينما وصلت الصف السادس كنت قد حفظت سبعة أجزاء من القرآن الكريم مجوداً، وشاركت في نفس العام في مسابقة لحفظة القرآن الكريم في خمسة أجزاء وكنت أحد الفائزين فيها بتقدير جيد. تلك كانت آخر سنة لي في السعودية بعد أن قرر والدي العودة بنا إلى اليمن نتيجة توعك الوضع العملي معه بعض الشيء من ناحية وحنينه الجارف إلى مسقط رأسه من ناحية أخرى. لم تختلف حياتي كثيراً حين عدت إلى اليمن في أواخر العام 1989 وأنا في عمر الثانية عشرة، ظل نفس الالتزام الديني يسربلني حيث كان تفكيري في الأمور مطبوعاً بنهج ديني.. سوى من بعض الإنفلاتات اللاشعورية التي تقتحم المرء عنوة، مصاحبة لبعض الاضطرابات النفسية وقت ولوجه مرحلة المراهقة. حافظت على ذلك الوضع المرتخي بمعونة والديّ وإخوتي وبعض الأقارب والأصدقاء الذين كانوا متوائمين مع ذاك الاتجاه الباهت، حتى بلغت الخامسة عشرة بدأت ملامح وجداني تتغير وتفكيري ضاق إلى حد ما عندما اختلطت حياتي دون تخطيط مع أشخاص متدينين وبعض ممن ينتمون إلى حزب الإصلاح بجانب استهوائي علوم الدين التي كنت أطلع عليها بين الحين والآخر. في ذلك العام ظهرت أكثر التزاماً بأمور الدين من بين أخوتي، حتى من بين كل الذين حولي من جيران وأصدقاء وأقارب، حين بدأ تعاملهم يتغير تجاهي وتصرفاتهم معي أخذت بعضها طابعاً رسمياً وبعضها الآخر حملت مشاعر مستفزة بتهكمها النزق. كثيرون منهم حين أكون برفقتهم، همهم الانشغال بتصيد الأخطاء التي كانت تفلت مني في بعض الأحيان في لحظات السهو أو نتيجة لعدم معرفتي في أمور أكون مخطئاً فيها رغماً عني. وخلال فترة قصيرة وجدت نفسي في وضع لا يحسد عليه، فمكانتي تهشمت أمام أصدقائي وجيراني، أصبحت فرجة يتسلون بها وقت فراغهم طرداً للملل، فكانوا ينتزعون مني كلاماً كاستجواب بأسئلتهم المستفزة ليوقعوني بأخطاء أكثر ليأخذوها ذريعة بأني لست أفضل منهم في شيء، بل على العكس فأنا أقل شأناً منهم بكثير، حيث شخصيتي مهزوزة ومعرفتي ضحلة في أمور ديني.. وهذا ما أدى إلى دحري إلى دهاليز العزلة. فكرت كثيراً في مرحلة الانطواء القاسية التي مررت بها أني لا بد أن أكون مميزاً وأكثر فهماً من غيري، علي أن أجتهد وأقسو على نفسي أكثر لأثبت للآخرين أني شخص ليس من السهل على أحد مجاراته، وأني الأفضل دائماً. فانجررت إلى قراءة نهمة في كتب التفاسير والفقه والسيرة، كثفت جهودي ومعظم وقتي لأتعمق في التفقه والسعي لمعرفة الكثير من علوم الدين ومساعدة الدعاة ممن عرفتهم والذين ربطتني بهم علاقة جيدة، ذلك الهوس سرقني لمدة سنة ونصف، حتى غدوت وأنا في السابعة عشرة من عمري أكثر وعياً بالتفاسير والفتاوى ليس من هم في سني فحسب بل ممن يكبرونني بسنوات، أصبحت حينها فقيهاً في نظر البعض وحجة يستمد منه الجواب الشافي في أمور ظلت تحِّيرني تائهين لفترة طويلة، وقدوة صالحة عند أولئك الذين يميلون لسلك مساري من المراهقين. ومع أني فرحت لكوني أصبحت مهماً ومؤثراً لدى كثيرين رغم صغر سني، إلا أني إلى جانب ذلك وقعت في مأزق عصيب أدركت سخافته حينما بلغت التاسعة عشرة. أصبحت متشدداً كثيراً، لا أصف نفسي في ذلك الوقت أني كنت يمينياً، فهناك يمينيون عرفتهم، صنفتهم على أقسام منهم في يسار اليمين ومنهم في الوسط، لكن قليلاً منهم وأنا واحد منهم كنا نمكث في يمين اليمين. فقد عفَيتُ اللحية وحلقت الشارب والسواك لا يفارق شفتيّ ولم أعد أرتدي سوى ثوب أبيض قصير و(مشدة) ألفها حول رأسي حتى الساعة وضعتها في ساعدي الأيمن، كنت مواظباً على الصلوات الخمس في المساجد، وأكثر من الصيام ومن صلاة الليل، لم أعد أستمع إلى الغناء ومشاهدة التلفزيون باعتباره محرماً برأي السلف الذين مشيت على نهجهم، ولم أكن أتحدث مع أية فتاة لأن الأنثى في تفكيري وقتها مصدر للفتنة والإغواء وسبب أساسي لخروج المرء من دينه.. تصحرت عواطفي وتجمدت مشاعري ولم أعد أمتلك وقتاً للمرح والضحك ولم أعد أشعر بوجودي كإنسان، بل مجرد جثة متنقلة, سكنني ذلك الشعور المفزع وأنا في منتصف الثامنة عشرة. ولكي أخرج من تلك الورطة كان علي اتخاذ إجراء صارم، فليس كافياً أن أرخي الحبل قليلاً واستهين في بعض الأمور لأحقق بعض التوازن، ذلك في نظري ليس مفيداً لتجاوز الوضع الحرج الذي أوقعت نفسي فيه، فسأظل مع ذلك محسوباً على جهة اليمين لكني مستهتر ومنفلت في بعض الأشياء.. فلم يكن هناك حل سوى أن أنقلب 180 درجة وأنتقل بقفزة طويلة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأغير مسار حياتي بالكامل وأعيش حياتي مستمتعاً بملذاتها كإنسان سوي. اقرأ في الملف : - مقدمة الملف. - ذكريات سلفي سابق .. حين يكون انتماؤك قيداً يكبل عقلك .. مستقبل السلفية تحرر الانغلاق وجمود الاعتدال. - النائب محمد الحزمي: الوادعيون ضد الحوار والتكفير ليس من حق أحد . - بعض أقوال محمد الإمام في كتابه " الحزب الاشتراكي في ربع قرن ". - الشيخ محمد الإمام: الإسلام ليس وسيلة للمحاباة . - مع الشيخ الوادعي في بضع سطور. - مستقبل السلفيين في اليمن .. العمل السياسي أنموذجاً. - الشيخ محمد المهدي: إعادة الناس للماضي شرف لنا .. والسلفيون أكثر من يشتغل بالفكر. - باذيب الذي لن يبلى .