هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    عناصر الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا وتختطف موظفا في العاصمة الموقتة عدن    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية تحليلية نقدية للأزمة السياسية والوطنية الراهنة(3)
نشر في الوسط يوم 28 - 07 - 2010

كتب/قادري أحمد حيدر إن المشروع السياسي الوطني الديمقراطي الذي تبلور ونضج في قلب الحالة السياسية الجنوبية لم يكن امتداداً لمشاريع الوحدات والاتحادات القبلية والعسكرية والدينية القديمة، تلكم الوحدات والاتحادات التي قامت على قاعدة السلب، والنهب، والعصبية، والشوكة، وفقاً لقاعدة الحرب والتوحيد السبئية (الحرق من الأساس) ولا على منطق الوحدات الحميرية، ولا على قاعدة التوحيد الديني المذهبي، كما ظهرت على يد المتوكل على الله اسماعيل في القرن السادس عشر 1644-1676م، أو ما بعدها من أشكال التوحيد على يد بيت الوزير في عشرينيات القرن الماضي ، في حروبهم على الحجرية (تعز) ، واعتبارها حروب توحيد ، و"فتح" ، إن المشروع السياسي الوطني الديمقراطي الذي تبلور ونضج في قلب الحالة السياسية الجنوبية لم يكن امتداداً لمشاريع الوحدات والاتحادات القبلية والعسكرية والدينية القديمة، تلكم الوحدات والاتحادات التي قامت على قاعدة السلب، والنهب، والعصبية، والشوكة، وفقاً لقاعدة الحرب والتوحيد السبئية (الحرق من الأساس) ولا على منطق الوحدات الحميرية، ولا على قاعدة التوحيد الديني المذهبي، كما ظهرت على يد المتوكل على الله اسماعيل في القرن السادس عشر 1644-1676م، أو ما بعدها من أشكال التوحيد على يد بيت الوزير في عشرينيات القرن الماضي ، في حروبهم على الحجرية (تعز) ، واعتبارها حروب توحيد ، و"فتح" ، والتي تؤكد تاريخ الوحدة والتوحيد بالحرب، والقتل، ومن هنا قيمة الخطاب السياسي الوطني الديمقراطي ، والوحدوي ، الذي بدأ يتشكل في الجنوب ، ومن قلب المدينة عدن ، باعتباره خطوة نوعية جديدة في الفكر والتفكير السياسي، نقل اليمن من خطاب الدولة الاقطاعية السلطانية القديمة، إلى حقل سياسي بكر، لم يألفه العقل السياسي اليمني من قبل، خطاب ومشروع مثل قطيعة معرفية، وفكرية، وسياسية، وثقافية مع خطاب الاتحادات القبلية، العسكرية، والدينية، ومع ثقافة الأصل، والفرع، وعودة الجزء إلى الكل ، أو عودة الابن الضال إلى مشجر أنسابه القبلية، أو ايديولوجية استعادة الوحدة المفقودة في صورة وحدة سبأ، وحمير، والمكاربة، والاقيال، والاذواء، هو مشروع سياسي ابداعي وطني لم يعرفه كل تاريخ اليمن القديم، والوسيط، والحديث، إنه مشروع وحدة سياسية وطنية ، ديمقراطية، تعددية ، لم تكن ناجزة ولا جاهزة، كما هي في عقل رموز المؤسسة القبلية، العسكرية، والدينية القديمة، مشروع افرزته تجربة سياسية مدنية وطنية سلمية تعددية، صهرته المدينة عدن بتنوعها وتعددها، وبأفقها السياسي المدني، إنه مشروع وحدة سياسية وطنية لم يأت على مثال سابق، وهو ما يفسر طريقة الانقضاض على الوحدة السلمية التعددية الديمقراطية التي قامت في 22 مايو 1990م، لأنها لم تأت على مقاس المثال السابق العقيم والمقيم في الماضي، مثال التوحيد بالحرب، وكان أقرب مثال أو نظام يمكن العودة إليه وللبناء على مثاله هو نموذج الجمهورية العربية اليمنية، ومن هنا طغيان مفهوم أو ايديولوجيا عودة الأصل إلى الفرع، والجزء إلى الكل، فالأصل كائن وقائم في الماضي، ولا صلة له بالمستقبل، وهو ما يفسر واقع الضم والإلحاق للجنوب بعد اجتياحه في 7/7/1994م. ومن هنا عودة الجنوب الفرع، إلى حضن الأب الأصل القائم في الشمال، وعودة الدولة الوطنية الجنوبية، إلى الأصل في صورة دولة القبيلة، أو السلطنة، أو الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، وليس إلى فضاء الدولة الوطنية المؤسسية الوحدوية الجديدة. ان التاريخ السياسي والاجتماعي اليمني المعاصر، يقول بوضوح وجلاء: ان الجنوب مثل الرافعة السياسية، والفكرية، والتنظيمية، والديمقراطية، والعملية لبلورة الصيغة السياسية الوطنية الكبرى، والمشاريع السياسية ذات الطابع الوطني الاستراتيجي على انقاض المشاريع السياسية الصغيرة، وفيه تبلورت وتخلقت ونضجت وأُنتجت أحلام الشعب اليمني بالقضية الوطنية اليمنية الواحدة، وبالسيادة، والتحرر، والاستقلال، والوحدة، وفي مختبراته الكفاحية السياسية والعملية كان ميلاد الحداثة، والمدنية، والتعددية، وحرية الصحافة، والرأي والتعبير، وفيه بعد عقود جرى ربط الوحدة بالتعددية والديمقراطية كخيار سياسي استراتيجي، وبذلك شكل الجنوب السياسي، والجغرافي، الفضاء الوطني الواسع لميلاد الحركة الوطنية، وفكرة الوحدة، ومنه وفيه كما يعلم الجميع كان اعلان ميلاد الوحدة وتحققها، وفي سمائها الزرقاء الصافية رفع علم الوحدة اليمنية يوم 22 مايو 1990م. ولا يخامرني أدنى شك وأنا أصيغ وأكتب حروف وبنود هذه الرؤية الفكرية والسياسية والوطنية من أن الجنوب والقضية السياسية الجنوبية ستكون هي الرافعة السياسية، والعملية على طريق إعادة إنتاج القضية الوطنية اليمنية، واخراج اليمن كله من الأزمة البنيوية الشاملة الراهنة، بفعل سياسات الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، على قاعدة تسوية سياسية وطنية تاريخية وعقد اجتماعي جديدين، للسياسة كفضاء وطني ديمقراطي تعددي، وللمواطنة كشراكة ومشاركة وعدالة، وللوحدة باعتبارها خصوصيات، وتنوع، وتعدد، واختلاف، في إطار وحدة مفتوحة قابلة للاستمرار والحياة، ومنتجة في الواقع لقيم الحرية، والتعددية، والمواطنة، على قاعدة دولة وطنية مدنية، مؤسسية ديمقراطية، وليس دولة حكم عصبية، وفردية، ومركزية، استبدادية متخلفة كما هو قائم اليوم. ولا يسعني هنا سوى التأكيد على قيمة الحوار والتعددية، والديمقراطية، والقبول بالآخر المختلف المغاير، وتأكيد أن النضال السلمي الديمقراطي هو خيارنا الوحيد، ولا بديل عن الكفاح المدني السلمي الديمقراطي، ولذلك فإنني أرفض التطرف والعنف، والحرب، واللجوء إلى وضع القوة فوق الحق، بقدر ما أرفض الإقصاء، والإلغاء، والضم والإلحاق القائمين اليوم تجاه الجنوب كشريك وصانع أساسي لدولة الوحدة المغدورة، ومدركاً أن العنف في امتداده الاستراتيجي لا ينتج سوى دورات عنف، تكون حصيلتها النهائية هشاشة المجتمع، وصولاً إلى تفكيكه وتمزيقه، حتى موت الدولة وفشلها أو انهيارها كما هي علائمها وملامحها القائمة والتي تنذر بالأسوأ، والكارثي ما لم يتادرك الحكم العصبوي الفردي المركزي الوضع بمعالجات جذرية سياسية ووطنية وديمقراطية ودستورية. ثانياً : القضية الجنوبية، كمنتج لحرب 1994م وتداعياتها السياسية والوطنية: قبل أن ندلف إلى قراءة وتحليل المرحلة الثانية/ المستوى الثاني من تطور القضية السياسية الجنوبية، أسبابها، وتداعياتها، وكيف برزت القضية الجنوبية كمصطلح سياسي، وعملية حراكية اجتماعية سياسية احتجاجية سلمية، من المهم التأكيد في مفتتح هذه الفقرة من الرؤية ، أن المشكلة ليست مع الوحدة بحد ذاتها، ففي ذلك تبسيط مخل لحقائق ووقائع ما يجري، وقراءة سياسية صحافية أحادية الجانب لا تكشف الصورة الكلية العامة للصراع، وللتناقضات الجارية حول تفاعلات الوضع القائم، وهي محاولة لحصر الصراع والخلاف حول الجانب الشكلي من الصراع، والتناقض، من مع الوحدة، ومن ضدها، دون تحديد المحتوى والمضمون السياسي والاجتماعي والوطني للوحدة، بالقول أن هناك طرفين: أحدهما مع استمرار فعل الوحدة، وآخر ضدها.. وهو خطاب مغلوط، ولا يعكس حقيقة الواقع، خطاب جرى صناعته إعلامياً من قبل الخطاب الرسمي. إن حديث الرؤية في الفقرة الأولى من عنوان القضية الجنوبية في تاريخيتها السياسية، والوطنية يؤكد أن التركيبة الجيوسياسية الجنوبية هي التي أنتجت تاريخياً الظاهرة الوطنية اليمنية المعاصرة، بأفقها السياسي المدني الواسع، وان الجنوب شكل تاريخياً الرافعة السياسية والفكرية، والاجتماعية والتنظيمية، لتبلور وظهور خطاب الوحدة اليمنية، وهو الخطاب الذي شاركت وأسهمت في بلورته، وإنتاجه، وصياغته، النخبة السياسية اليمنية من أقصى البلاد إلى أقصاها. وبهذا فإن الصراع الدائر اليوم في البلاد، لا يجري حول معنى الوحدة لذاتها وفي ذاتها، بل حول مضمونها السياسي الوطني الديمقراطي، التعددي، وحول قضية الشراكة في السلطة والثروة، وحول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وحول الفساد. وفي القلب من كل ذلك حول قضية بناء الدولة الوطنية المؤسسية الحديثة، فالأزمة قائمة في نظام الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، الذي استبدل دولة الوحدة السلمية الديمقراطية، بدولة الحكم العصبوي، الفردي، العسكري. الأزمة في جوهرها قائمة في نظام الحكم العصبوي الفردي المركزي، وليس في الوحدة كفكرة ورؤية، الحكم الذي تكرَّس بصورة عسكرية وأمنية مع حرب 1994م. إن حرب 1994م هي انقلاب جذري على الوحدة السلمية الديمقراطية، التعددية، وعلى دستورها، ومضامينها الوطنية والديمقراطية. إن الرؤية التي بين أيديكم تتكىء على تراث معرفي، وفكري سياسي، وعلى مخزون سيكولوجي وطني، وخبرة كفاح عملية طويلة، هي استغراق لذاكرة الوحدة والتجزئة، والصراع، بدءاً من التاريخ القديم والوسيط، والحديث، حتى الأحداث المأساوية في 13 يناير 1986م، وصولاً إلى كارثة حرب 1994م. وهي إرث تاريخي، وخبرة كفاح سياسية ووطنية تراكمية، وقفت الرؤية أمامها ، وتعاطت معها بعقل نقدي مفتوح، دون حذر أو خجل، أو مواربة، ويمكنني القول بكل صدق ووضوح أن الرؤية في صياغتها التي بين أيديكم هي حصيلة ذخيرة ذاتية وموضوعية ، وسياسية ، تاريخية ، علمتنا إياها التجربة السياسية ، التاريخية ، التي أصبحت حاجة ، وضرورة سياسية ووطنية ، لا بد من استخلاصها وأهم هذه الاستخلاصات إدراك معنى وأهمية الاعتراف بالآخر، والقبول به كما هو، وضرورة تجاوز ثقافة الإقصاء والإلغاء، وأكدت لنا أن الآخر هو أنا وليس الجحيم، إلى درجة أن تشكلت لدينا عقدة ذاتية من اللجوء إلى العنف، أو الحرب لحل خلافاتنا أو صراعاتنا الحزبية في داخلنا، أو مع غيرنا. وهو ما يفسر تبلور خطاب التعددية والديمقراطية الحزبية داخل دولة الجنوب السابقة قبيل قيام الوحدة، والاعلان عن خروج بعض الأحزاب من قاع العمل السري إلى العلنية، والسماح بتشكيل أحزاب جديدة ديمقراطية. ومن هذه الخلفية المعرفية والفكرية والسياسية، كان تأكيدنا المستمر أن الحوار هو خيارنا الوحيد، وخيراً فعل الاشتراكي بعدم الرد على اغتيالات رموزه ، وقياداته ، وكوادره بالمثل ، ففي ذلك ضرب المثل السياسي في بقائه مؤكداً تمسكه بالوحدة كخيار سياسي سلمي ديمقراطي، هذا إلى جانب عشرات المحاولات الفاشلة لاغتيال العديد من قيادات الصف الأول للاشتراكي، المتواجدين في قمة السلطة، وفي قلب العاصمة صنعاء، وجميعها معروفة للجميع، وموثقة. هذا إلى جانب المماطلة والتسويف في تنفيذ وتطبيق الإتفاقيات الوحدوية، والرغبة الجامحة والمحمومة في تعديل دستور دولة الوحدة، خاصة وأن جميع مشكلات الماضي رحلت إلى دولة الوحدة وإلى المرحلة الانتقالية تحديداً، وجميعها كانت محاولات للتخلص من مقومات وأسس بناء دولة الوحدة القائمة في الدستور، وجميعها مقدمات سياسية وعملية إجرائية، وأمنية للقضاء على أسس ومقومات بناء الدولة الوطنية المؤسسية الوحدوية الحديثة. وهي مقدمات سياسية وموضوعية، أولى جنينية للانقلاب على وحدة 22 مايو 1990م، ولبروز وظهور القضية الجنوبية، وليست حرب 1994م سوى التتويج العسكري للانقلاب السياسي الجذري والشامل على الوحدة، الذي سبق الحرب. ويمكننا القول إن كارثة ومأساة الوحدة بالحرب في 1994م أعادتنا إلى المربع الأول في تاريخ السياسة اليمنية، بل وإلى مرحلة ما قبل الثورتين اليمنيتين، سبتمبر، واكتوبر، في صورة إعادة إنتاج سافرة لحكم عصبوي فردي مركزي جرى تعميده بالحرب ومحاولة ترسيخه بالقوة خلال أكثر من نيف وعقد من الزمن، وهذا ما يفسر بروز وتنامي القضية الجنوبية، وتحولها إلى ظاهرة سياسية وحقوقية، ووطنية عامة، وهو ما نسميه في هذه الرؤية بالمرحلة الثانية أو المستوى الثاني من تطور القضية الجنوبية. لقد كان الهدف السياسي والعملي المباشر من حرب 1994م هو إقصاء الشريك السياسي الأساسي في معادلة دولة الوحدة، وهو الجنوب، والاستئثار بالسلطة والثروة، واحتكار الحكم في يد قبضة عصبية، فردية، واحدة جامعة، باسم الحفاظ على الوحدة، ومنع الانفصال، وفي نطاق حكم مركزي استبدادي متخلف. وكلنا يعلم أن لا وحدة مع الحرب، والدم، والإقصاء، والإلغاء، وقهر التعدد والتنوع، فكيف بنا ونحن أمام حالة وحدة ارتكزت في حربها على اجتياح الجنوب، وعلى الضم والإلحاق، وتحويل
الجنوب كله (أرضاً، وثروةً، وسكاناً) إلى غنيمة وفيد، وجعل ممتلكات الدولة العامة ملكية خاصة لزعماء الحرب، والنافذين السياسيين، والاعتداء على ممتلكات وأموال وأراضي المواطنين الخاصة بقوة السلطة، وتحويل موظفي دولة الجنوب «القطاع العام» في مجموعهم إلى عمالة فائضة، ومقاعدين، وعاطلين عن العمل تحت مسميات مختلفة، وتسريح ومقاعدة أكثر من مئة ألف من جيش وأمن دولة الجنوب السابقة، ووضعهم تحت أهوال حياة سياسية واقتصادية ومعيشية صعبة وضاغطةعلى حياتهم وحياة أسرهم، التي يعولونها. وتشير الاحصائيات إلى أنه تم نهب أكثر من مائة وعشرين ألف فدان، ومئة وثلاثين مؤسسة اقتصادية وصناعية وتجارية، وثلاث عشرة مزرعة تعاونية، ناهيك عن تزييف عقود ملكية، واصدار ملكيات لا أساس لها، وجد فيها الجنوبي نفسه بدون مؤسسات ولا إدارة، ولا سلطة قانون، حتى في حدها الأدنى، يحكمها مزاج النافذين، وقانون الفوضى، ووضع القوة فوق الحق، مما وسع دائرة الانتهاكات على سلطة النظام والقانون التي كانت قائمة في دولة الجنوب السابقة، وعلى سكانه، وعلى حقوق الناس المباشرة، تحول القضاء إلى تابع لأوامر النافذين، وجماعات الفيد، بعد ان تحولت المحافظات الجنوبية والشرقية، قاطبة، تعيش حالة طوارىء عسكرية وأمنية علنية وسافرة، فقد معها سكان الجنوب مصالحهم المباشرة التي كانت تؤمنها وترعاها وتقدمها دولة الجنوب السابقة، (صحة، تعليم، خدمات عامة، بنى تحتية، أمن، قضاء، مواطنة)، وأعيدت إلى ما قبل الدولة، وما قبل تاريخ الثورتين اليمنيتين، سبتمبر، وأكتوبر، حتى التاريخ السياسي والثقافي والتراث الكفاحي السياسي والوطني لأبناء الجنوب تحول إلى فيد ايديولوجي، مطلوب إعادة صياغته وكتابته وفق قانونية الفوضى، والفيد، وثقافة المنتصر في حرب عبثية مجنونة لا صلة لها بالجمهورية، ولا بالوحدة، ولا بالديمقراطية، حرب جرى معها تغيير أسماء الشوارع، والمدارس، والحدائق، والمكتبات، والأحياء، والمتاحف، التي ارتبطت بحقبة النضال الوطني للجنوب ضد الاستعمار، حتى أسماء الرموز الوطنية، والشهداء، المدونة على المعالم السياسية والوطنية والتاريخية جرى تغييرها واستبدالها بأخرى، بما فيها المتحف الذي يحمل اسم الشهيد غالب بن راجح لبوزة الذي تحول إلى فرن 7 يوليو، وإلى تحويل الغرفة التجارية في مدينة عدن والتي عمرها مائة وعشرين سنة إلى فرع لمصلحة شؤون القبائل في صنعاء، وتحويل مطار عدن الذي كان أهم ثالث مطار في الوطن العربي بعد القاهرة وبيروت إلى مطار للرحلات الداخلية. وحتى مقابر الشهداء لم تسلم من الفيد والاعتداء، وصولاً إلى تعيين شيخ لمشايخ مدينة عدن، وغيرها كثير، وهو قمة الاعتداء على الضمير الوطني الخاص للناس، وعلى الذاكرة الوطنية التاريخية للجنوب. حقاً لقد دمرت الحرب ومدخلاتها السياسية والعسكرية الذخيرة المعرفية والثقافية للجنوب، وأتت على الخبرة والتراث السياسي الوطني للجنوب، وعلى حصيلة المكتسبات المادية، والاقتصادية، وعلى تجارب وثمار العيش المشترك، والأهم أنها دمرت وسحقت التراث المادي والسياسي والمعنوي لقضية وواقع امكانية استكمال بناء الدولة الوطنية المؤسسية الحديثة، وأعادتنا القهقرى إلى ما قبل الدولة، وما قبل الوطن، والشعب، في صورة حكم عصبوي، فردي، مركزي، في أسوأ تجلياته القروسطية. وفي هذا السياق تؤكد الرؤية أن الهدف المركزي خلال سنوات1990- 1993م كان السعي إلى فرض منطق التقاسم الحزبي، والمحاصصة الحزبية التي رفض الحزب الاشتراكي استمرارها، كآلية لطبيعة وجوهر الحكم والنظام السياسي ، وكانت الخطوة الثانية إلى ذلك طرح قضية الدمج بين الحزبين كخطوة ثانية للعودة إلى تكريس فكرة المحاصصة الحزبية، ومن ثم التهيئة السياسية لضرب فكرة وقضية الديمقراطية، والتعددية السياسية والحزبية المفتوحة، العمق السياسي للوحدة، أو معادلها السياسي الوطني في الواقع، وهي عملياً المدخل للخطوة الثالثة المتمثلة في تجاوز شرعية بناء الدولة الديمقراطية المؤسسية الوحدوية، كما ينص عليها الدستور. وبذلك يعود الوطن كله إلى الشمولية، وحالة حكم الحزب الواحد من باب التعددية والوحدة، وهو عملياً ما رفضه الحزب الاشتراكي ، وكافة أطراف المعادلة السياسية خارج السلطة معلنين تمسكهم بالوحدة، والديمقراطية، والتعددية، على قاعدة استكمال بناء الدولة المدنية الوحدوية المؤسسية، وفي ذلك كله يكمن الجذر المباشر المفسر لاعلان حرب 1994م ، التي استهدفت إخراج الحزب الاشتراكي من معادلة الشراكة في بناء سلطة دولة الوحدة، ومحاولة إقصائه بالقوة من الفعل في المجال السياسي العام، بعد أن حولت الحرب الجنوب كله إلى مسرح لعملياتها العسكرية والحربية. ومع كل ذلك بقي الحزب الاشتراكي، رقماً صعباً، وخياراً سياسياً وطنياً للجميع - على الاتفاق أو الاختلاف معه حول هذه القضية أو تلك المسألة -. ولا يستطيع أحد اليوم أن ينكر المكانة المركزية التي احتلها وما يزال الاشتراكي في قلب القضية الجنوبية، سواءً قبل الاستقلال في صورة فصائل وتيارات الحركة السياسية الديمقراطية المعاصرة، التي شكلته بعد ذلك كإطار سياسي تنظيمي جامع لها تحت اسم الحزب الاشتراكي، ودوره القيادي البارز مع بقية فصائل العمل السياسي الوطني في مرحلة التحرر الوطني للجنوب، وانجازه الاستقلال الوطني المجيد في 30 نوفمبر 1967م، ودوره السياسي والوطني التاريخي في توحيد 23 مشيخة، وسلطنة، وإمارة، في دولة وطنية واحدة، حتى لحظة شراكته القيادية البارزة في إعلان وقيام وحدة 22 مايو 1990م السلمية، كشريك أساسي في قيامها ووجودها، حتى الانقلاب على الوحدة السلمية بالحرب في 7/7/1994م. وعلى الرغم من مأساوية وكارثية الانقلاب بالحرب على الوحدة السلمية، بقي الحزب الاشتراكي رقماً صعباً في قلب القضية السياسية الجنوبية، رقماً كان من الصعب تجاوزه، أو إزاحته..، بقي قوة سياسية، واجتماعية، ووطنية حاضرة في جميع تفاصيل، ومعطيات، ومكونات، القضية الجنوبية. كان بحق ممثلاً للعمق السياسي والذاتي للقضية الجنوبية، القضية التي لم يكن بالإمكان تجاوزها بالحرب، عبر عمليات الضم، والإلحاق، ومحاولة كسر إرادة الجنوب، وأبنائه، كشركاء في دولة الوحدة، وفي السلطة، والثروة، على قاعدة المواطنة، وبناء الدولة المؤسسية الحديثة. إن ما لم يدركه البعض هو أن القضية الجنوبية إنما هي حالة سياسية، موضوعية، تاريخية، حالة موضوعية قائمة بذاتها، ولا يمكن استكمال وتحقيق صورة ومضمون الوحدة إلا بها، كقضية سياسية، باعتبار الجنوب هو الوجه الآخر للوحدة، والمكمل لصورة لوحة القضية الوطنية اليمنية. فالجنوب هو العمق السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والمادي الملموس للقضية الوطنية اليمنية، وليس أدل على ذلك من استمرار تجدده وانبعاثه في صورة ما يجري من حراك، أو حركة سياسية اجتماعية احتجاجية سلمية واسعة، تغطي الجيوسياسي الجنوبي كله. ولم يكن الحزب الاشتراكي كحالة سياسية ذاتية، هو سبب أو مبرر وجود القضية الجنوبية، غيابها، أو حضورها. فالقضية الجنوبية في تاريخنا المعاصر حاضرة بالاشتراكي أو بدونه، إلا أن ما يجب تأكيده وإثباته هنا، وبكل وضوح، هو أن المعاني والقيم الوطنية العليا، والدلالات السياسية، والثقافية، والوطنية الكبرى، قد ارتبطت به، وبدوره، وبمكانته في قلب العملية السياسية، والفكرية، وهي التي تجسدت عملياً من خلال دوره السياسي، والقائد، في قلب القضية السياسية الجنوبية، وفي مجمل العملية السياسية الديمقراطية الوطنية المعاصرة. إن الخوف الحقيقي اليوم، إنما هو ماثل في محاولة البعض تشويه مضمون التوجه السياسي العام للحراك، وللقضية الجنوبية، أو محاولة اختطاف القضية الجنوبية في صورة الحراك الجماهيري السلمي إلى أماكن، أو مواقع، مجهولة، بعيدة عن جوهر الحراك، والقضية الجنوبية، ومحاولة إدراج، أو إدخال، القضية الجنوبية ضمن سياق تاريخي آخر لا صلة له بها. ولذلك تجسدت أهداف الحرب المباشرة في التالي: * إقصاء الجنوب كشريك أساسي في معادلة الوحدة، وشريك فاعل في إنتاج وتملك السلطة والثروة. * إلغاء الاتفاقيات الوحدوية جميعاً بالحرب. * تغيير دستور الوحدة وليس تعديله، وهو الدستور المستفتى عليه، وبدون استفتاء مرة ثانية. * غنيمة وفيد الملكية الوطنية العامة لدولة الجنوب بطرائق ومسميات مختلفة (الخصخصة بدون قانون أولاً، وبعدها بإجراءات قانونية شكلية، نهبها بالتزوير والتزييف، نهبها عبر العطايا والمنح والهبات دون حق). * تسريح ومقاعدة أكثر من مائة وخمسين ألفاً من موظفي دولة الجنوب، مدنيين وعسكريين وأمنيين. * احتكار السلطة في يد قبضة حكم عصبوي، فردي، مركزي، مع توزيع بعض المنح والهبات الذاتية الشخصية لبعض الموالين والأعوان، ضمن شروط منظومة الولاء الشخصي، والاستزلام الفردي. * تعميم نهج الحرب والقوة، على قاعدة الضم والإلحاق، كسياسة ثابتة للحكم العصبوي، الفردي، المركزي. * إن تكريس نهج القوة والحرب على قاعدة الضم والإلحاق، وعودة الأصل إلى الفرع، انتج في الواقع ثقافة المنتصر، والمهزوم، التي اصبح بموجبها الجنوب فعلاً انفصالياً، وحالة لا وحدوية، والحكم العصبوي الفردي كرمز للشمال فعلاً وطنياً وحدوياً، وهي قمة المأساة والمفارقة. إن كل ما سبق كرس في الواقع سياسة تمييزية إذلالية قهرية لشعبنا في الجنوب، حول عملياً قطاعاً واسعاً منهم إلى عاطلين عن العمل (خليك في البيت) يدورون في دائرة ثقافة الشكوى، والطلب، والرجاء لفترة طويلة، على أمل ان يعود حكم العصبية، والفردية إلى رشده، وحكمة العقل السياسي الوطني الذي قامت عليه دولة وحدة 22 مايو 1990م. على ان النهب والفيد لاملاك وثروات دولة الجنوب السابقة توسع بلا حدود، وحولت جميعها إلى ملكية خاصة لزعماء الحرب، والنافذين، وجماعة المصالح الضيقة من الفاسدين، وهي ثروة ومكتسبات الجنوب الاقتصادية والمادية، والمالية، والسياسية، التي حافظت عليها دولة الاستقلال الوطنية الجنوبية، باعتبارها ملكية اجتماعية وطنية للشعب كله، ولم تمسسها أو تعتدي عليها، رغم كل ما لحق دولة الجنوب من اختلافات، وصراعات، وحروب.. يمكننا القول في سياق هذه الرؤية وبكل صدق وشفافية، ووضوح أن حرب 1994م قد دمرت بإجراءاتها الوحشية والتصفوية القاسية، أسس الوحدة الوطنية، والاندماج الاجتماعي الوطني، وأجهزت على المشروع السياسي الوطني الوحدوي السلمي، وفي القلب من كل ذلك قضية بناء الدولة الوطنية المؤسسية الحديثة، فكل إجراءات وممارسات ما بعد حرب 1994م عرَّضت المصالح الجذرية والحيوية لشعبنا في الجنوب، إلى الهدر والتدمير، والخراب، وعملت في الواقع على تهميشهم وإخضاعهم بالقوة العسكرية والأمنية، وفرض منطق معاملة تمييزية قاسية ضدهم.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.