كتب/أ.د. مبارك قاسم البطاطي ليس الهدف هنا في هذا المقال التقييم -سلبا أو إيجابا لما يجري في بلد الإيمان والحكمة، وما يمكن أن ينتج من تغيير في بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما الإشارة والتأكيد لأن شيئا كبيرا وخطيرا ما يجري الآن، وسيقود إلى تطورات كبيرة وعميقة في المستقبل. لقد قامت صيغة التحالفات في بلادنا طوال الفترات الماضية وتحديدا منذ الثاني والعشرين من مايو وحتى الآن، أقرب إلى الهشاشة وعدم التكافؤ، إضافة إلى ما يشوبها من الارتياب والحذر والسلبية بنظر طرفي التحالف أنفسهم، وأيضا لعجز هذه الصيغة عن تحقيق إنجازات وحدوية ملموسة. هذه الحالة التي بدأت منذ وقت مبكر تجلت بأوضح معانيها وصورها في العام 94م ولا تزال موجودة، تقريبا مع تفاوت يسير في حدة الخلافات ومشروعيتها القانونية والتاريخية ومن تبدل الخصوم، وهي تشكل الآن قمة المأساة بالنسبة لوضعنا الراهن، لأن معظم الذين يتبادلون الاتهامات، ويطلقون الأوصاف والأحكام، لم يكتشفوا الأفكار والمصالح التي تجمعهم، ولم يختبروا إمكانية التعايش والتعاون من أجل تحقيق أهداف قد تكون مشتركة، ولم يستطيعوا تحديد نقاط الاتفاق والاختلاف فيما بينهم بشكل دقيق. لقد حصل ذلك نتيجة التعصب والانغلاق والنظرة القاصرة، ونتيجة تغليب الآني على الاستراتيجي. بكلمات أخرى: إن انعدام المصداقية بين الأطراف، وعدم وجود تقاليد أو صيغ للتعبير عن الفكر والمواقف، والركون إلى قناعات بدائية أو يقين لاهوتي بأن الحقيقة، كل الحقيقة، في هذا الجانب وحده، وعدم الرغبة في فهم الآخر أو محاورته إضافة إلى العلاقات القبلية داخل المؤسسات السياسية جميعها، كل ذلك جعل الامور تتداخل وتتشابك إلى درجة يصعب معها الوصول إلى الشيء المشترك، والفهم المتبادل، وتحديد أولويات كل مرحلة. ولذلك تراكمت الأخطاء والأحقاد والمخاوف وغابت الأسئلة الصحيحة والأجواء السليمة، بحيث لم نعد نعرف بدقة وجوه الاختلاف والالتقاء ومتى تكون القوى السياسية متحالفة أو على خصام مع السلطة. في هذا الجو الملتبس المتداخل، والذي يغلب عليه الآني والطارئ وتميز الشطارة والمناورة، فإن أغلب ما يكتب أو يقال يذهب، أدراج الرياح وبالتالي يحس الكثيرون بعدم الثقة واللاجدوى، وهذا ما يفسر عزلة الكثير من القوى السياسية وانتفاض الكثير من حولها ويفسر أيضا صمت عدد كبير ممن لديهم ما يقولونه لو أن الجو كان مختلفا، ويفسر أخيرا لماذا لم تتبلور الحوارات التي جرت سابقا، ولم تؤد إلى نتائج هامة وملموسة في مسيرة العمل السياسي الوطني. إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تبدل المناخ العام؟؟ وهل تغيرت القوى المدعوة للحوار؟؟ لا نريد هنا أن نصدر أحكاماً، ولكن يمكن القول دونما خطأ: أن الوضع الآن لا يقل سوءا عن صيف عام 94م، فالانهيار وصل إلى ذروته والقوى السياسية شاخت بمعظمها وثبت إفلاسها أو عجزها، كما أن الكثير من العوامل السلبية التي حالت دون الوصول بأي حوار إلى نتائج ملموسة لا تزال قائمة، وربما أقوى من قبل. فالتقاليد القبلية، معززة بفكر سلفي ودغمائي، تسيطر على الأجواء والعلاقات بين القوى والتعصب تبلغ أعلى مراحله وكأنه أصبح الوسيلة الأخيرة للدفاع عن النفس وعن المصالح. وهكذا أصبح الانهيار والتآكل وانسداد الآفاق من ملامح الوضع الراهن، وهذا لا يخفى على أحد، حاكماً أو محكوماً، كما أصبح الشعور بالخطر الداهم قويا مسيطرا وهذا الشعور يشمل الجميع، ويتجلى بصور وأشكال تتضح وتتعزز يوما بعد آخر.. فهل الشعور بالخطر يؤدي إلى وقفة نقدية صارمة، ومواجهة للأخطاء والمشاكل تمهيدا لمعالجتها؟ في ظل هذا الوضع، وللانتقال من حالة الإحباط والاستسلام لا بد من توفر مجموعة من الشروط: طرح المشاكل الحقيقية بصراحة من خلال أسئلة صحيحة وجدية، توفر المصداقية والجرأة فيمن يطرح الأسئلة أو من يقدم الإجابات عنها أو الحلول، الاعتراف بالأخطاء ونواقص الماضي من خلال عملية مراجعة ونقد ذاتي، وضع صيغ عملية لمتابعة أي حوار أو أي مهمات، العقلانية في التعامل مع الآخر ومع التوافق سواء في وضع البرامج، أو تحديد المطالب. فهل هذه الشروط متوفرة أو يمكن توفيرها؟ أنه سؤال يحتاج إلى تدقيق أن العوامل والأسباب التي أشرنا إليها سيكون لها أهمية استثنائية مؤثرة، فالعزلة لم تعد ممكنة، كما أن الاستقرار الظاهري أو المؤقت لا يعني أن الأوضاع القائمة سوف تنهار، وستقوم على أنقاضها أوضاع جديدة إن هذا التفسير الميكانيكي غير وارد فالمرحلة القادمة ستكون من أبرز سماتها (الثورات العمياء). إذا صحت مثل هذه التسمية والتي ستأخذ أشكالا من الهياج والعنف والتحدي، وسيقودها في الغالب الجياع والمحرومون، والتي سيكون دور القوى السياسية والمعارضة فيها ضئيلا أو معدوما، عدا القوى السلفية، إذ سيكون دورها التعبئة والتحريض أكثر مما هو القيادة.. هذه التطورات تمليها أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، وستأخذ هذا الشكل لعدم وجود قيادات سياسية معارضة قادرة على القيادة أو تقديم البرامج البديلة -والغائبة كلية الآن- لكي تفرض نفسها كبديل. لقد تنازلت الأحزاب والقوى السياسية المعارضة عن استقلالها وانتمائها وعن ممارسة دور الرقابة الفعلية والحقيقية، المحايدة والنزيهة، وتقويم الأخطاء والخطايا وتخلت أيضا عن البرنامج المشترك، وأصبحت بالتالي امتدادا للسلطة، وبهذا التغيير الذي حصل تم التنازل عن البرنامج السياسي الذي كان يميزها. إن الاستقلال الذي يجب أن تتمتع به القوى والأحزاب السياسي المعارضة ودور الرقابة الذي يفترض أن تمارسه، كثيرا ما تخلت عنه بمجرد تغير وضعها وعلى التحديد قربها أو بعدها من بريق السلطة. على ضوء ما تقدم يجب التمييز، بوضوح، بين التحالف الوطني المقترح والذي يستند إلى برنامج وتوافق يأخذ في الاعتبار الحقوق المشروعة للأطراف وفقا لطبيعة المرحلة والقوى، وليس وفاقاً للنظرية المستحدثة للمعارضة في الانضواء تحت راية السلطة أو امتدادا لها. صحيح أن أغلب القوى السياسية المعارضة لم تثبت جدارتها لأسباب أو أخرى ووقعت في الكثير من الأخطاء، لكن تجاوز ذلك لا يكون في القفز فوق الواقع المؤلم والتصور أن تسديد النواقص يكون على حساب حقوق الآخرين في المطالبة بحقهم المشروع والتاريخي. إن فهم ما حصل خلال فترات سابقة يجعلنا نفهم واقعنا بشكل أفضل، لأن التاريخ، كما يقول (كروتشه) هو بأجمعه تاريخ معاصر، أي أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله، وأن العمل الأساسي للمؤرخ ليس فقط التدوين وإنما، وبالدرجة الأولى التقويم. وإذا كانت القوى الخارجية (كما يزعمون) تريد لنا أن نستمر في حالة التمزق والتأخر، فإن العيب الأساسي يكمن داخلنا، إذ لم نستطع الوصول إلى وفاق أو اتفاق حول كل هذه الخلافات والتي تعتبر جوهرية وعميقة، حتى وصلنا إلى الاقتتال في صيف عام 1994م ولا زلنا حتى هذه اللحظة داخل هذا النفق المظلم وسنظل!! حين أصبح نابليون منفيا ولا أمل له بالعودة، فقد قال كلمته المشهورة: "لا أحد سواي مسئول عن نكبتي، فقد كنت وحدي ألد عدو لنفسي والمسبب لمصيري" ويبدو أن أكثرنا، بل كلنا، خاصة بعد حرب 1994م يقول لنفسه هذه الكلمة، إن لم يكن جهرا فسرا، ومن لم يقلها اليوم سيقولها بكل تأكيد غدا، والغد ليس ببعيد.