كتب/ د.مصطفى بهران منذ نشأت علاقة المحبة بيني وبين الفيزياء الحديثة في الثمانينات في جامعة صنعاء وأنا في حالة حرب دائمة مع عدد من المفاهيم الخاطئة التي تستعمر عقول المتعلمين بما في ذلك نسبة كبيرة من العلميين، وفي مقدمة هذه المفاهيم الخاطئة مفهوم الذرة وحركة إلكتروناتها واختلاط هذا المفهوم مع مفهوم الشمس ودوران الكواكب بما في ذلك كرتنا الأرضية حولها، فهناك اعتقاد خاطئ ولكنه شائع جداً بأن إلكترونات الذرة تتحرك حول محيط نواتها في مسارات دائرية أو بيضاوية منتظمة، تماماً مثل مدارات الكواكب حول شموسها، وهذا الاعتقاد ليس خاطئا فحسب بل يمثل سوء فهم يدمر حقيقة الذرة برمتها وهي أهم مفاهيم العلم المعاصر. إن إلكترونات الذرة في حركتها حول محيط النواة لاتدور بل تنتقل من موضع إلى آخر بصورة عشوائية لايمكن تحديدها سلفاً، فالدوران هو أحد أشكال الحركة المنتظمة، والانتظام غير موجود في عالم الجسيمات الذرية وتحت الذرية، وما يحكم حركة هذه الجسيمات هو العشوائية المطلقة التي تمنع أي شكل من أشكال الانتظام، بمعنى أن أحداً لايعلم بشكل مطلق أين موضع إلكترون ما في الفراغ إلا إذا قام بالقياس المعملي وصادف (أي بمحض الصدفة فقط) وجود هذا الإلكترون في الموضع المقاس، وبمجرد رؤية الإلكترون بالصدفة في موضع ما لا يستطيع أحد بالمطلق تحديد أين سيذهب هذا الإلكترون، وكل ما يمكن معرفته هو مجمل المواضع المحتملة لتواجد هذا الإلكترون، وعدد هذه المواضع لانهائي، أي أن أحداً لايستطيع أن يتيقن أين بالتحديد يوجد هذا الإلكترون، أو أين بالتحديد سيذهب بعد ذلك فيما إذا لوحظ في موضع ما بالصدفة. إن حالة اللايقين هذه في موضع الإلكترون وكمية حركته ناتجة عن الطبيعة العشوائية للجسيمات الذرية وتحت الذرية، ولتقريب هذا الأمر للقارئ يمكن مجازاً أن نشبه حركة الإلكترونات بحركة "القُمّل"، فال"قُمّلي" إذا وُجد بالصدفة في مكان ما لا يمكن أبداً تحديد إلى أين سيقفز بعد ذلك، مع العلم أن حركة ال"قُمّل" هي حركة شبه عشوائية وليست عشوائية تماماً مثل حركة الإلكترونات. تحضرني عشوائية الإلكترونات، وشبه عشوائية ال"قُمّل" كلما أمعنت النظر في المشهد السياسي اليمني، والعشوائية التي تسيطر على حركة سياسيينا هذه الأيام، وكأنهم إلكترونات عشوائية أو "قُمّل" شبه عشوائية، فكلما بدأ الناس يشعرون بانتظام حركة سياسيينا سلطةً ومعارضةً باتجاه إيجاد حل وخلاص للبلاد والعباد من خلال الحوار الوطني المنشود، فوجئ الجميع بانفراط عقد هذا الحوار وتنافر سياسيونا ضاربين عرض الحائط مصلحة البلاد والعباد متشبثين بضيق أفقهم ومصالحهم الانانية الواسعة. إن حركة السياسيين اليمنيين، سلطةً ومعارضةً، أصابت المراقبين بداء اللا يقين حول المستقبل السياسي لليمن، هذا المستقبل الذي إن لم يستقم لن تستقيم لليمن قائمة، فهؤلاء السياسيون يجب أن يدركوا أن مستقبلهم (هم) جميعاً -سلطةً ومعارضةً- مرهون بتوافقهم وتشاركهم في رسم مستقبل مشرق أو حتى معقول لهذا البلد الطيب والمسكين. بالنظر إلى آخر التطورات، يخشى المراقبون المحليون والدوليون أن تصل عشوائية السياسة اليمنية بأطراف الحوار إلى حالة طلاق حقيقي يترتب عليها ذهاب الحزب الحاكم إلى الانتخابات وحيداً مما يؤدي إلى عزوف الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم، خاصة في مديريات أو محافظات معينة ويكون لهذا العزوف مدلولات ونتائج تكرس ثقافة الكراهية وتعزز الفكر الإنفصالي المشؤوم، الأمر الذي سيقود البلاد الى هاوية اللاديمقراطية من جهة ويزيد من فرص الثقب الأسود الانفصالي -الذي أشرت إليه في مقال سابق- من جهة أخرى ، كما يخشى المراقبون أنفسهم أن لاتجري الإنتخابات مما يخلق فراغاً دستورياً في السلطة التشريعية وهذا الوضع هاوية دستورية، وفي كلا الحالتين يصبح سياسيونا "قُمّلاً" تقفز إلى هاوية، في حين ان بإمكانهم التوافق على المصلحة العامة من خلال حلول توافقية تتطلب تنازلات من كل الأطرف، فهل هذا ما زال ممكناً، جميعنا نرجو ذلك! اللهم علم سياسيينا التعقل والانتظام، وجنبهم عشوائية الإلكترونات وشبه عشوائية ال"قُمّل"، لعلهم يجدون طريق الصواب فيجنبوا بلادنا القفز إلى الهاوية، إنك أنت السميع المجيب.