وصمدت أمام العواصف والانواء حتى تحققت المصالحة الوطنية التي وضعت حداً للاقتتال الذي دام ثمان سنوات و أستوعبت الجميع في ظل النظام الجمهوري الخالد. مثلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر أهم حدث في تاريخ اليمن والمنطقة والجزيرة العربية وبلغ صدى هذه الثورة المدوية اصداء المعمورة فاليمن الذي احتل مكاناً بارزاً ومميزاً في تاريخ المنطقة والذي امتلك حضارة لا تزال شواهدها بارزة للعيان من أوائل البلدان التي أسست ممالك اسهمت في بناء العمران وفي وضع الدساتير والقوانين وأسهمت في صنع الحضارة الإنسانية. كان اليمن محط اهتمام انظار العالم عبر مختلف العصور فالفرس والأحباش والبرتغاليون والأسبان والعثمانيون والبريطانيون نفذو إلى اليمن عبر مختلف المراحل بدوافع استعمارية والاستفادة من اليمن وثروتها وموقعها. وبسبب ذلك تراجع دور اليمن نتيجة لتلك الأحداث وللعديد من العوامل وفي مقدمتها الصراعات و العزلة والتخلف وبالذات عدم تفاعل الإمام يحيى مع مظاهر التقدم والتطور الصناعي الذي شهده العالم مع مطلع القرن العشرين والذي كان بإمكان اليمن أن تكون السباقة بالاستفادة من علاقاتها مع العالم الخارجي وظلت اليمن محكومة بعقلية متخلفة وبالأطر والأساليب التقليدية ولم تستطع التعامل مع قيم العصر. كانت النهضة العربية التي انطلقت من مصر وامتد اثرها إلى البلدان العربية قد أثمرت وعياً جديداً لدى مختلف الأوساط وفي مقدمتها اليمن حول الالتحاق بالركب الحضاري والتقدم الصناعي الذي شهدته أروبا. كانت ثورة 48 هي نتاج ذلك الوعي الذي قاده المستتنيرون ضد الإمام يحيى ومع فشل تلك الثورة فقد كانت الشرارة الأولى والخميرة التي أحدثت تغييراً عميقاً في حياة الشعب اليمني ولدى العلماء والمثقفين والشباب وبين القوى الجديده لم تتوقف مقاومة المعارضه التي اتخذت اشكالاً شتى لمناهضة حكم الإمام أحمد الذي ظن أنه قد أهال التراب على كل من يرفع صوته وعلى كل المناوئين ما أرتكبه من مجازر في حجة لكن كل ذلك القمع الذي لجأ إليه الإمام احمد قد زاد الجذوة اشتعالاً فكانت ثورة 56 التي أخمدت هي الأخرى ومحاولة اللقية والعلفي الفردية والفاشلة التي أضعفت قدرة الإمام أحمد على مواصلة دوره القمعي وجاء دور المدرسة التحضيرية والثانوية والمتوسطة وشبابها الذين تغذوا وتشربوا روح الحرية والكرامة والتوق إلى أن يكون وطنهم في طليعة الدول المتقدمة وقد كانت لثورة 23 / يوليو التأثير العميق في صياغة أفكارهم وأحلامهم وتطلعاتهم وكانت الكتب التي تبشر بالنهضة وتدعوا إلى مناهضة الطغيان والدكتاتورية والتي كانت تتسرب إلى اليمن تزيد من مساحة الوعي وتغرس بذور الثورة. عندما انتقلوا إلى كلية الشرطة الحربية والطيران أحس الجميع أن أحلامهم قد تحققت وأن مسؤوليات إعداد أنفسهم ليوم مشهود عظيم الذي يحدثون فيه التغيير الأكبر قد قرب. ورغم الصعاب والعقبات والأجواء القاتمة استطاع أولئك الظباط ان ينشئوا تنظيم الظباط الأحرار وأن يعتمدوا على أنفسهم وأن يحددوا موعد الثورة وخاصة بعد أن بلغ المرض بالإمام أحمد مداه وكانت عملية الإقدام التي لم يسبق لها التاريخ مثيلاً بتفجير الثورة في 26 من سبتمبر يمثل عملاً اسطورياً فقد كانت التضحية من أجل تحقيق أهدافهم بتفجير الثورة فوق أية حسابات أخرى، واستطاعوا فعلاً منذ اليوم الأول بعد تفجير الثورة وإعلان الجمهورية أن يسيطروا على صنعاء وعلى قصور الإمام والإذاعة وأن يعلنوا قيام الثورة والجمهورية. وفي اليوم الثاني، عندما علموا بأن الإمام البدر قد لاذ بالفرار، انتشر أولئك الضباط في كل الاتجاهات بإمكاناتهم المتواضعة خشية أن يتكرر ماحدث في 48 . كان العالم في البداية شديد التحفظ إزاء الثورة اليمنية باستثناء مصر التي أعلنت دعمها ومساندتها للثورة اليمنية وكذلك الاتحاد السوفيتي. تلك هي قصة مختزلة لقصص وحكايات وروايات طويلة عن أحداث تلك المرحلة. ولم نمض شهرا حتى امتدت جبهات المقاومة للثورة شرقاً وغرباً وشمالاً من بعض قبائل اليمن المسنودة بالدعم السعودي عبر الإمام البدر الذي تموضع في الخوبة على الحدود اليمنية السعودية في مواجهة القوات اليمنية والمصرية التي بدأت تتدفق على ميناء الحديدة وبدأت تتوجه إلى مناطق القتال يوماً بعد يوم. غرقت اليمن في حرب أهلية خلقت مآسي وجراحا ونزيفا يوميا . ومنذ العام 62 67 حدثت صراعات واختلافات وانقسامات بين اليمنيين انفسهم وأقيمت المؤتمرات المنتقدة للاداء اليمني والمصري في عمران وخمر وأدت في النهاية إلى احتجاز حكومة العمري بكامل اعضائها في القاهرة والذين ذهبوا للتتفاوض حول العلاقات اليمنية المصرية وجاء العدوان الإسرائيلي على مصر لتجد مصر نفسها مضطرة للإنسحاب من اليمن وترك اليمن لليمنيين فكانت حركة نوفمبر التي تزعمها القاضي الإرياني التي مثلت انقاذا للوضع اليمني لكن الملكيين ومن يدعمهم ظنوا بأن الفرصة مواتية للإنقضاض على النظام الجمهوري فكان الدعم الهائل والحشد الكبير والإستعانة بالمرتزقة في الهجوم على صنعاء لكن الجيش اليمني بإمكاناته المحدودة والمقاومة الشعبية والوطنيين والمشايخ الأحرار استطاعوا دحر ذلك العدوان. ورغم الحصار الذي ظل 70 يوماً كانت المقاومة لاتتوقف من بيت بوس إلى عيبان إلى حده إلى دار سلم إلى تبة مطلع إلى كل الأماكن المحيطة بصنعاء الى تماسك الجبهات في مختلف المناطق، وجاء فك الحصار عبر الحملة التي انطلقت من الحديدة والتي كان قوامها أربعة الف جندي والتي تم الإعداد لها وتسييرها عبر الحديده بقيادة قائد الحملة اللواء عبد اللطيف ظيف الله ومعه اللواء أحمد المتوكل وقائد القوات الشعبية المرحوم احمد عبدربه العواضي ومعه رفيق دربه أحمد سالم العواضي واستطاعت هذه الحملة أن تشق طريقها عبر الحيمتين وبني مطر إلى أن وصلت إلى متنه بعد أن طهرت تلك المناطق وكان أغلب تلك الجموع التي شاركت بالحملة من قبائل البيضاء ومصعبين وحريب وبيحان وشباب اب يقودهم عبد العزيز الحبيشي. بعد فك الحصار وعودة الروح إلى النظام الجمهوري اطمأن الناس أن الملكية قد انتهت وأن الجمهورية التي ألحقت الهزائم بالملكيين باتت هي الحقيقه الوحيده في الساحة. شهدت اليمن عقب الحصار مماحكات بين مختلف صفوف الضباط داخل وحدات الجيش كانت بدوافع حزبية أدت إلى أحداث اغسطس المشؤومة. وقد استقرت الأوضاع بعد معالجة تلك الأحداث وبدأت مرحلة إعادة ترتيبات وضع الدولة. جاءت مناسبة انعقاد مؤتمر الدول الإسلامية في 22 من يوليو 1970م بجده للولوج إلى عقر الدار التي شكلت سنداً ومصدراً للملكيين وخاصة بعد أن تسلمت اليمن دعوة لحضور ذلك المؤتمر من المملكة العربية السعودية وبعد أن أصبحت الجمهورية حقيقة وواقعاً معاشاً، وخلال اجتماع المجلس الجمهوري والحكومة قرروا بالإجماع المشاركة بالمؤتمر وكلف رئيس الوزراء ومعه عبدالله الأحمر رئيس المجلس الوطني ومصطفى يعقوب سفير اليمن بالقاهرة وسفير اليمن بالكويت عبد الله الحجري والعقيد يحيى المتوكل الذي اختير من قبل ضباط القوات المسلحة. استقبل الوفد بحفاوة بالغة واستبشر اليمنيون بهذا الحدث. أتيح للوفد خلال وجوده في جده إجراء العديد من الإتصالات مع مستشاري الملك (كمال أدهم - ورشاد فرعون - ومع الأمير سلطان بالذات الشخصية المعنية والمسؤولة عن الشأن اليمني والذي كان يحرص على إنهاء الأوضاع القائمة بين اليمن والسعودية وبعد إطمأنانهم الى رحيل المصريين. كانت المحادثات كما وصفها العيني شاقة وصريحة بين البلدين وإعادة اللحمة بين اليمنيين وذلك بعودة الملكيين للانضواء تحت راية النظام الجمهوري باستثناء بيت حميد الدين. وتم الاتفاق المبدئي على عودة الملكيين كمواطنيين منضويين تحت راية الجمهورية وكانت بنود الاتفاق المتمثل بتوقف إطلاق النار و إشراك العائدين في منظومة الحكم بعد عودتهم وتشكيل الحكومة وإقامة مؤتمر وطني عام وهذا تم صرف النظر عنه وطي صفحة الماضي وذلك بغية تحقيق المصالحة الوطنية ووقف نزيف الدم الذي طالما نادى لها منذُ اليوم الأول للثورة الأستاذ النعمان والقاضي الإرياني، وتوجت تلك الاجتماعات بلقاء الملك فيصل الذي بارك اللقاءات والاتفاق قائلاً: اليمنيون يقررون مصير بلدهم بأنفسهم. بعد عودة الوفد كانت المواقف بين مؤيد ومعارض لذلك الاتفاق لكن الحكومة والمجلس الجمهوري أيدوا بالإجماع ذلك الاتفاق وبقي الجيش والذي كان مواقفه متذبذبه عند لقاء العيني بقياداته، وبلقاء مطول أعلنوا تأييدهم للاتفاق، أما بعض القوى السياسية والقبلية والتي كانت تستفيد من الأوضاع الحزبية فقد عقدت اللقاءات والاجتماعات المعارضة للاتفاق ولكن لم تفلح في تحقيق أي شيء.