تمكن الرئيس السابق صالح من البقاء في صدارة المشهد السياسي الحالي رغم تلقيه ضربات موجعة منذ ما يسمى بثورة الربيع العربي في فبراير 2011م ليس لأنه يريد ترك السلطة، بل لأن هناك من فرض عليه الخروج منها قويًّا أو صاغرًا، رغم أنه جعل من السلطة والدولة وأجهزتها المختلفة أشبه بالملكية الخاصة، بعد عملية إحلال عمل بها على تغيير قوام مؤسساتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية والحكومية بأخرى خاصة به، منذ توليه السلطة عام 1978م. فقد أحل محل وزارة الداخلية الأمن المركزي بانتماء ولائي وبقيادة أسرية، واستبدل القوات المسلحة بالحرس الجمهوري بقيادة أسرية أيضًا، واستبدل الأمن السياسي بالأمن القومي وبولاء عشائري ومناطقي، وأقام حزبًا سياسيًّا شموليًّا هو المؤتمر الشعبي العام كحزب للنخبة والامتيازات باعتباره حزب السلطة للوصول إليها عبره، ومنح المريدين وأصحاب الولاء عبره فقط ابتداء بالمناصب والاعتبارات وخلق الوجاهات إلى منح الأوسمة والنياشين لهذا الشخص أو ذاك، ولا يستطيع أي شخص سلك طريقه عبر بوابة حزب المؤتمر أن يقول عكس ذلك، أو أنه فعل ذلك لأجل الوطن، أو أنه وصل عبر الفعل الحر في العمل السياسي من خارج المؤتمر، إلا ما ندر أثناء فترة حكم الرئيس السابق الذي كان يتحكم بالدولة ويحرك كل ساكن فيها، بل كان أشبه سيطرة بملك فرنسا في القرن الثامن عشر (لويس الرابع عشر) الذي كان يردد (أنا الدولة والدولة أنا). وهكذا بعد أن سيطر صالح على الدولة سياسيًّا وعسكريًّا استطاع التحكم بكل مؤسسات الدولة الاقتصادية، وتعامل معها بسلطته في رأس الهرم كمركز رئيس لإدارة أجهزة الدولة بكل مكوناتها، وقرب رجال القبيلة والعشيرة وأصحاب الولاء المطلق له، فكوّن بذلك مركز شد وسيطرة، وتحكم ببقية المؤسسات سياسيًّا واقتصاديًّا خارج دائرة المركز أو المحيط أو الأطراف بفعل السيطرة العسكرية والأمنية باسم الدولة. واستطاع صالح أن يسيطر تمامًا هو ومعه (10- 15) أسرة في المركز أصبحت تملك وتتحكم بما يقارب 85% من الدخل والثروة والسلطة في الجمهورية اليمنية، وهذا ما أكده تقرير المعهد الملكي البريطاني (تشاتام هاوس) نهاية العام الماضي. بالفعل أسس صالح دولة على النمط ألبطريركي وتعامل مع القبائل منذ توليه الحكم بعلاقات التجاذب القبلي والتوافق الرأسي الذي يبقيه متدخلا ومخترقا لها ومحافظا على علاقته بها، انطلاقًا من الأعراف والتقاليد السلوكية القبلية، واستغل علاقته التقليدية بالقبيلة في إضعاف القوى القومية واليسارية خلال فترة حكمه لأكثر من ثلاثة عقود، وهذا ما يفسر عدم قدرة تلك القوى اليسارية والليبرالية على الاستفادة من التغيير لصالح دولة مدنية حديثة رفعته كشعار لما يسمى بثورة فبراير 2011م. كان تأثير صالح في الدولة وفي بنائها المؤسسي قويًّا إلى حدود أنه صنع حول شخصيته هالة ومكانة ولدت كاريزميته وسط المجتمع القبلي المتخلف، خاصة بعد أن استغل السطوة والقبيلة في تحقيق مآربه الشخصية، ليتوج من نفسه ملِكًا على اليمن. ولهذا بحث عن كل حدث يجعل منه رمزًا متفردًا تاريخيًّا بسيرة العظمة والكبرياء، وعلى هذا الأساس لم يخفِ صالح غبطته بالمتغيرات العالمية ورغبة الشعب الجنوبي للدخول بوحدة فورية في مقابل اعتماده على جملة الظروف المهيأة لصالحه في العام 90م، وهو ما يتسق مع رغبته وطموحه للاستفادة القصوى من الوحدة لصالح مشروعه العائلي والفردي. وبالفعل استغل الإمكانات والأسباب، وتمادى معها في اختزال الجنوب كدولة وإمكانات جغرافية وسياسية واقتصادية لصالح مشروعه هذا، حيث عمل على ترويض الشعب الجنوبي لجعله أداة طيعة له كما هو الشعب في الشمال، رغم ما عمله بالكثير في هذا الجانب إلا أن انتفاضة الجنوب عجّلت وسهّلت لخصومه من داخل الأسرة والقبيلة بالانقضاض عليه وإبعاده عن الحكم في محاولة لاقتلاع جذوره العميقة من السلطة والمجتمع بشكل عام. لكن الظروف استعجلت معه وعجّلت برحيله، رغم أنه بالأساس يمتلك جذورًا عميقة، فكان على الأقل من الصعب أن يذهب كما ذهب زين العابدين بن علي، ولا كما غادر مبارك السلطة، ولا مثل قرينه المقتول معمر القذافي، بل أكثر من ذلك حافظ على وجوده وعمقه من خلال بقاء القوات المسلحة والأمن من غير أن تحسم الموقف، وكذلك من خلال حزب المؤتمر كواجهة سياسية، والذي أصر أن يكون هو رئيسه. وهكذا فبقاء تلك المؤسسات هي الضامن لتحقيق هدفه الشخصي حاليًّا، المتمثل بحالتين: الأولى: الانتقام من الخصوم.. الثانية: استراتيجيته في العودة إلى الحكم. لهذا أدركت دول الجوار قوة وتأثير صالح على الوضع السياسي في اليمن، فأطلقت مبادرتها الفقيرة من العمق والتأثير المستقبلي لإصلاح أوضاع اليمن، بل كانت سببًا لتقوية وتعزيز مكانة صالح وتحصينه أيضًا، وسهّل له ذلك ممارسة العمل السياسي الذي يمكن من خلالها تحقيق أهدافه والعبث بالأوضاع السياسية والأمنية بما يتفق وسياسته، ومنها زعزعة الأمن والاستقرار، واستخدام عناصر القاعدة التي له علاقة ببعض شخصياتها، وبالمقابل استخدم خصومه عناصرها الخاصة أيضًا في اتجاه الجنوب لإرباك المشهد السياسي، من أجل الحفاظ على الوحدة اليمنية. فلم يتوانى صالح يومًا عن استخدام إمكاناته وتأثيره في فتح جولات جديدة من الصراع بعد إبعاده من السلطة، في حين جعل هذه السلطة نصب عينيه عازمًا على كسبها، وقد تسبب لأجل ذلك في كثير من المشاكل والأحداث التي أظهرت الحكومة بأنها فاشلة عن الأداء، وتمكن بتدخله في إعاقة المرحلة الانتقالية وفشل مشروع التغيير، فضلاً عن تمكنه من الحيلولة دون تحسّن يذكر في الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي جعل الكثيرين من العامة والغوغاء تردد مقولتها عن قناعة بأن الماضي مع صالح أفضل من الحاضر بمسمى التغيير، وهذه المقولة كانت (سلام الله على عفاش). لهذه الأسباب مجتمعة تحالف عفاش مع خصمه الذي سيظل يناور به ومعه في سياسته الداخلية والخارجية إلى أن يحقق حلمه في العودة إلى الحكم، في تصوره، بواسطته أو عبر ابنه أحمد الأكثر احتمالاً يراهن عليه لتولي الرئاسة خلال الفترة المقبلة. لقد أظهر الزعيم حنكة في الإشارة غير المباشرة إلى السيد عبدالملك الحوثي: أن الوقت قد حان لضرب السلفيين الذين سوف يتحالف معهم الإصلاح حتما.. فكانت البداية من دماج في الحرب بين الحوثيين والسلفيين أواخر العام الماضي، إلى أن حقق الحوثيون الانتصار عليهم في بداية العام الحالي، وهنا بدأ بتجسيد التحالف مع السيد، فأصبح تحالفًا واضحًا بين السيد والزعيم، كما يحلو لأتباعه إطلاقه عليه. كان الناس منشغلين بالحوار وأنصار الله يحققون انتصاراتهم التي بدأوها من دماج.. واعتبر صالح عملية التهجير لعائلات من دماج هو نتاج لفشل الحكومة وعدم قدرة الرئيس هادي، بل وتواطئه في تهجير السكان السلفيين من صعدة، ولم يصدر عن صالح أي بيان تنديد بذلك رغم أن السلفيين كانوا على علاقة قديمة به في أثناء حكمه، في حين برر الزعيم صمته بأن الإصلاح والقاعدة اشتركا مع السلفيين في محاربة أنصار الله، وكانت هذه هي وسيلة لتعزيز تحالفه مع السيد لتحقيق أهدافه. كان عفاش في مؤتمر الحوار يمثل النظام السابق، وهو النظام الطامح لاستعادة السلطة كتيار في مواجهة قيادة الثورة الشعبية كما تسمي نفسها بقيادة علي محسن وتحالف آل الأحمر والإصلاح، في حين كان صالح متواجدًا بقوة في كل مفردات الحياة السياسية في بنية الدولة وسلطاتها المختلفة، وكذلك في قوام القيادات الأمنية والعسكرية، ويتواجد أيضًا من خلال علاقته بالوجهاء والمشايخ والمجالس المحلية في كل النواحي والمديريات، والتي ستشهد اشتباكات حرب تصفية بين خصومه من آل الأحمر والإصلاح وبين جماعة الحوثي، وهو الأمر الذي سهل المهمة للسيد بدفع أتباعه إلى تصفية خصومه الذي تقاطع بها مع خصوم صالح كخصم مشترك مطلوب الثأر والانتقام منه، ولو أدى ذك إلى تدمير العملية السياسية برمتها، وهذا ما حصل خلال هذا العام بمختلف التفاصيل الدراماتيكية التي عشناها بشيء من الدهشة والاستغراب مما حدث. بعد وصول أنصار الله إلى عمران بمساعدة أتباع صالح ومحاصرتهم لواء القشيبي حتى تم اقتحام ونهب اللواء المذكور من قِبل أنصار الله في يوليو هذا العام، حينها أدرك صالح قرب اللحظة الثأرية ضد الخصوم فزاد لديه الأمل بالعودة إلى السلطة بعد أن كان لا يتمنى أكثر من الثأر من خصومه، من وراء تحالفه مع الحوثي، وتم التقدم ومحاصرة صنعاء في أكثر من جهة وتضييق الخناق على الخصوم، بعد أن سمح غباء السياسة في السلطة والحكومة بإنزال وفرض الجرعة، فكانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير، ودخل أنصار الله بمساعدة أتباع وأنصار الزعيم صنعاء بأقل مقاومة تذكر، والغرابة أن بن عمر كان وسيطًا لإدخالهم العاصمة بموافقة الرئيس هادي. حاليًّا يسيطر أنصار الله على معظم المحافظات الشمالية بالكتالوج الذي رسمه لهم الزعيم، وبه تم توجيه أتباعه وأنصاره والمنتمين للمؤتمر الشعبي من قيادات المحافظات ووجهاء ومشايخ تلك النواحي ومن مسؤولي السلطات المحلية الذين ينتمي أغلبهم بالولاء للزعيم وحزبه، تلك التوجيهات تقضي باشتراكهم أو حتى اختراقهم ليكونوا في قيادة اللجان الشعبية في المحافظات فكان ذلك بنزعة ظاهرية حوثية شكلا وقواما، وبالهوى والأتباع عفاشية، وهي التي تسيّر أغلب أعمال اللجان الشعبية باسم الحوثي، في حين ما زال عفاش يغازل السعودية التي يهمها الأمر والمتغيرات الحادثة في اليمن، وتجربة (الزعيم) في أنه يعرف من أين تؤكل الكتف، وينتظر منها الموقف الداعم، كون المملكة ترى في صالح الرجل القادر على حكم اليمن، والذي لديه القدرة على محاربة الحوثيين ومحاصرتهم في مران، كما حدث في فترة حكمه، في الوقت الذي يطمح عفاش بأن تسلم له المهمة الرسمية بالدعم الكافي والذي يستطيع معها أن يقايض السيد بإعطائه فرصة جيوسياسية محدودة داخل محافظة صعدة كي يؤسس فيها دولة داخل الدولة، ولكن هذا الأمر صعب المنال بأن يفرط الحوثي بالأرض التي وصلت إليها اليد الإيرانية، ويبدو أن القادم يحمل الكثير من المفاجآت التي يكون للزعيم الكثير من الأدوار فيها. والسؤال المنتظر هو: إلى أين؟. والله الموفق. صالح محمد مسعد (أبو أمجد)