ليس هناك ما هو أشق على نفسي من الخوض في الشأن الوطني، خاصة ما يتعلق بالعلاقة بين النظام والمعارضة. قد يستبق قارئ أو آخر من القراء الكرام إلى القول بأن ذلك لعدم الاهتمام بالموضوع أو اللامبالاة به. وقد يذهب آخر إلى القول إن ذلك سببه تجنب الضرر والخشية من العواقب. والحقيقة أن المشقة لا علاقة لها بالسببين المذكورين، بل إنها تكمن في ندرة المعلومة الصحيحة وصعوبة الحصول عليها. وتدفق السيولة التضليلية من الجهات الأصلية والفرعية، ومن السموات أيضا. فيصعب على صاحب الرأي أن يبني حكما صحيحا ودقيقا على مجريات الأحداث ويجتهد في تقديم رأي سليم قد يفيد هذا الطرف أو ذاك أو الطرفين معا، فيصبح ما يكتبه كلاما فارغا لا يفيد في شيء. وقد جرت العادة في العلاقة الإعلامية بين الحكومة والمعارضة أن كل طرف يقول النقيض تماما لما يقوله الآخر. حتى أن الزميل عبد الكريم الرازحي يسخر من هذا الوضع فيقول إنه يكتفي بقراءة الصحف الرسمية ليعرف ما كتبته صحف المعارضة، لأنها تكتب النقيض، والعكس بالعكس! ويؤكد هذه الحقيقة الضيوف اليمنيون المتعارضون الذين يظهرون على بعض الفضائيات، فكلٌّ يقول نقيض ما يقوله صاحبه، فيصبح المشاهد تائها وسط هذه التناقضات الصارخة، ما لم يكن المضيف لبقا وملما ببعض الحقائق، فيتدخل ليصحح ما ليس معقولا من أقوال المتناظرين. وقد أذهلني أن تصل البجاحة بواحد من هؤلاء إلى حد القول إن مشروعا واحدا لم يقم في المحافظات الشرقية والجنوبية منذ قيام الوحدة، وهو تضليل يفتقر حتى إلى الحياء. فتطوير البنية التحتية والعمران الذي جرى في مختلف المحافظات أمور ملموسة ومحسوسة وتستطيع أي فضائية أن تتأكد من ذلك. أما ضنك العيش، وسوء الخدمات، وعدم تناسب الدخول مع مستويات الأسعار التي لا حدود لارتفاعها، وكذلك الافتقار إلى فرص العمل؛ فلا أحد، من أقصى اليمن إلى أقصاه، لا يعاني ويشكو منه مر الشكوى؛ تماما كما يشتكي المواطن من استشراء الفساد وتلاشي الآمال في قدرة الآليات المقترحة لمكافحته على أداء مهماتها أو عدم القناعة بسرعة أدائها، لأنها تجد نفسها أمام جبروت لا تقوى عليه، وإنما يلزم للقضاء عليه جرأة لا تقل عن جرأة "فلاديمير بوتن" رئيس روسيا حاليا ورئيس وزرائها مستقبلا الذي هدد بقطع أيدي العابثين. وما يجري في بعض محافظات اليمن أمر مفهوم وغير مفهوم في الوقت نفسه. فمفهوم أن للمتضررين من نتائج حرب عام 1994 والمُسرَّحين من أعمالهم بسببها مطالب حق. لكن اللجان التي كونتها الحكومة تعمل على قدم وساق لحل تلك المشكلات، وتحتاج إلى وقت لاستكمال عملها. وتلي ذلك مباشرة مشكلة الاستيلاء على الأراضي. وفيما يروَّج أن الشماليين يستولون على أراضي الجنوبيين، فالحقيقة أن المتنفذين يوهبون أراضي أو يستولون على الأراضي في الشمال والجنوب على حد سواء. غير أن هذه الظاهرة في الشمال قديمة ولم يعد يحس بها المواطن. بينما هي ظاهرة جديدة في المحافظات الشرقية والجنوبية؛ لذلك انزعج إخواننا مما رأوا! غير أن تجيير الممارسات الخاطئة لحساب الدعوة للانفصال أمر غير وطني وغير أخلاقي. والذي يطالب اليوم منوما بيمنَيْن، سيستيقظ غدا على أكثر من ذلك بكثير. والدعوة لتشغيل العاطلين كلمة حق يراد بها باطل. فالباطل تصويرها كمشكلة جنوبية. فالعاطلون موجودون في الشمال والجنوب. وأكاد أجزم أنهم في الشمال أكثر. والظاهرة هذه هي ثمرة من ثمار الانفتاح الذي طالما تعشّقه الإخوة في الجنوب. وفي هذا النظام عادة ما تلقي الحكومات تبعات التنمية وخلق فرص العمل على القطاع الخاص، وهذا يشترط بيئة استثمارية مواتية، وهي مسؤولية الحكومة، التي لا تستطيع القيام بها، لظهور مشكلات أمنية هنا وهناك يكون إخمادها أولوية مكلفة. وليس من الإنصاف أن تنتزع هذه الاختلالات الأمنية من إطارها الإقليمي والدولي. وقد أصبح واضحا للعيان أن أياديَ خارجية تحركها في مختلف البلدان من إندونيسيا وماليزيا حتى المغرب العربي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سوء إدارة المال العام، والذي تبذل الحكومة الآن جهودا لا بأس بها للحد منه، يحتاج إلى فسحة من الزمن ليؤتي نتائجه. وأخيرا فإن القول بأن النظام يدس في وسط التحركات السلمية مشاغبين ليبرر قمعها هو قول متواتر. وقد يكون الأصح هو أن الأحزاب السياسية اليمنية تستطيع أن تحرك الناس متى وحيثما تريد، نظرا لظروفهم المعيشية، لكنها لا تستطيع السيطرة على حركتهم. فتضطر الحكومة للتصدي لهم. وكلا الطرفين مخطئ في أدائه كما يقول الدكتور "اللوندي"، لأن العمل الديمقراطي بالمفهوم والصورة الغربية لم يكن جزءا من تاريخ شعوبنا، ولم يصبح بعد جزءا من ثقافة الناس وسلوكهم. *السياسية نت