فصول معركة التحضير للإنتخابات المقبلة لم تنته بعد، فقد بدأت بشروط طويلة اشتملت على المطالبة بتعديل قانون الإنتخابات، وتعديل جداول اسماء الناخبين، وتعديل النظام الإنتخابي من الدائرة الفردية الى القائمة النسبية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وربما المحاصصة المسبقة في بعض الدوائر الإنتخابية الخ.. فالتشدد في المواقف، وسيل الاملاءات لايزال هو سيد الموقف حتى هذه اللحظة، اذ لم تشهد اطراف العملية السياسية (سلطة ومعارضة) منذ عام 1990 حوارات ساخنة وباصوات عالية على مسائل تفصيلية كما شهدته الأشهر الماضية، فقد خرج مجلس النواب ولأول مرة - وهو أعلى سلطة تشريعية ورقابية في البلاد - عن هيبته ووقاره، ودفع باعضائه (أوقل كتله الحزبية) للتباري وتبادل الشتائم وكيل التهم في حلبة صراع نصبت تحت قبته، في مشهد غير مألوف، كانت تتناقله الفضائيات الاعلامية حول تعديلات القانون الانتخابي التي رُفضت بالنتيجة، وتشكيل اللجنة العليا للإنتخابات التي شُكلت من طرف واحد. والمشادات الإعلامية وصراعات الدِّيَكَة التي لم تفض هي الأخرى حتى الآن الى نتيجة تخدم التسوية السياسية بين السلطة والمعارضة. وأياً كانت النتائج حتى الآن، إلا أن المؤشرات - برأيي - لاتزال تصب بإتجاه آخر، هو أقرب الى التوافق منه الى التنافر والمقاطعة، مايعني أن المشهد الإنتخابي المقبل في نيسان (ابريل) 2009 سيكون مرشحا للتنافس والسخونة الشديدة، ولكن بنتيجة حوار جاد ومسؤول يجب أن تشهده الساحة السياسية بين (عقلاء) المؤتمر و(عقلاء) المشترك .. حوار يقدم المنطق على ما سواه، ومصلحة الوطن على المصالح الحزبية والشخصية، ويمنح المتنابزين بالألقاب فرصة لإلتقاط الأنفاس والترويح عن الذات. ذلك لأن الأجواء أصبحت مشحونة بصراخ يصم الآذان، فأن يتحول كل الناس الى صقور فذلك ليس من السياسية ولا من الكياسة في شيء، وأن يتحول كل الناس الى حِمْلان وديعة، فتلك هي السذاجة وفقدان التوازن، وبالتالي ضياع المصلحة . ولعل قادة المشترك قد 'ضيعوا في الصيف اللبن'، واندفع الجميع باتجاه التشدد فتحلَّلَ الأستاذ عبد الوهاب الآنسي من مرونته، وتجاوز الدكتور ياسين سعيد نعمان شيئا من هدوئه وحكمته، وأختفت مراوغة الأستاذ المخلافي عبد الملك. أما فخامة الأخ الرئيس فقد فَقَدَ بعض عناصر التوازن المهمة في محيطه، وهو يدرك ذلك جيدا، فقد فََقََدَ الشيخ عبدالله الاحمر الذي كان يُجمِّل من سوءات الاصلاح، ويكبح جِماح التشدد في حزبه، وفَقَدَ يحيى المتوكل الذي كان من موقعه الرسمي والتنظيمي يمثل عنصر التوازن السياسي، وكان يمسك بخيوط اللعبة مع الغلاة من أصحاب 'المذهب'، وفَقَدت اللجنة العامة للمؤتمر صوت القاضي أحمد الحجري الذي كان يخفف - في توزيع ذكي وهادئ مع الأستاذ عبد العزيزعبد الغني- من صراحة وصرامة الدكتورالارياني، وحِدَّة وإندفاع عبد الرحمن الأكوع، وإنطباعية باجمال (شفاه الله)، وفقد المؤتمر إخلاص كثيرين من قادة العمل السياسي الذين لم يعد لبعضهم من همٍ سوى الزلفى وكسب المودة، وجني المحاصيل، ولكن على حساب مصلحة التنظيم والنظام! فالمرحلة إذن لم تعد بحاجة لمزيد من الشد والجذب، بل هي بحاجة الى سبرغور ما أفسده التعصب الأعمى، وخربته المواقف التي زايدت في عدد من القضايا ليس فقط على مصالح وطنية عليا وإنما على مصالح الأحزاب نفسها. والمهم أن المواقف المتصلبة - وأرجو ان لا أكون مخطئا - (ربما) ستتحلل، وسنكون وخلال وقت قصيرغير معنيين بها، لسبب واحد هو أن قيادة المؤتمر وقيادة المشترك، كلاهما حريصتان على التشارك الإنتخابي ولكل- بالطبع - حساباته الخاصة . فالمشاركة الحزبية الواسعة في الإنتخابات المقبلة تحمل معاني كبيرة وهامة بالنسبة للمؤتمر على المستوى الخارجي بالذات، وستعزز داخلياً من مفهوم قبول الحزب الحاكم بالآخر، رغم بعض الشروط التعجيزية التي تطرح في الكواليس، وهي بالنسبة لأحزاب المشترك الخطوة التي لامهرب منها، إذ أن غياب هذه الأحزاب في المنافسة على مقاعد مجلس النواب، يعني الحرمان من المشاركة في العملية السياسية، ويعني عزل قيادتها و قاعدتها عما يجري في الساحة السياسية وبالتالي جعل قواعدها - ربما- نهباً لإستقطابات سياسية من خارجها، فحيثما تكون المصلحة سيكون التوجه. ومن هنا فمصلحة أحزاب المعارضة أن تتوصل مع الموتمر الى اتفاقٍ ما يفضي الى المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية المقبلة لأسباب كثيرة، لنقُل أن من أبرزها أيضاً الحفاظ على المربع الذي يُمَكِّنها من أن تتحرك و تناور وتعارض من خلاله . لأن معارضة ليس لها وجود في أهم مؤسسة تمثيلية ك 'البرلمان' هي معارضة لاتحمل معنى، وليس لها قيمة سياسية في مفهوم التعددية الحزبية، ولن يكون في يدها أكثر من إصدار بيانات قد لا تلقى بالاً على المستويين الداخلي والخارجي، ولنا في تجربة مقاطعة الإشتراكي لإنتخابات 1997 مثلاً حياً، فقد شكلت المقاطعة نكوصاً كبيراً في عمله السياسي، وخسر شعبياً وتنظيمياً، كما إنعكست سلبيات ذلك الموقف أيضاً على النتائج التي خرج بها بمحصلة مشاركته في الأنتخابات التالية التي جرت في عام 2003. وهي أيضا مصلحة المؤتمر الشعبي العام، فهو معني بتأمين مشاركة حزبية فاعلة في العملية الإنتخابية، وهو معني كحزب حاكم أن يقدم التنازلات لقاء مشاركة المعارضة، لأن شرعيةً كاملة لأية إنتخابات حرة ونزيهة يقودها ويرتب لها أي نظام حاكم، لايمكن ان تُكْتَسب إلاّ بمشاركة المعارضة، وهو مايجب ان يوطن المؤتمر نفسه عليه ،غير أن التنازلات المطلوبة منه لا يجب أن تفرط بأغلبيته ولا تتهاون في نتائجها . فالكل يبدو متوثباً بإتجاه السلطة، وفي ظل تنافس شريف وقوي، سيكون - بالتأكيد - من حق المعارضة أن تسعى للحصول على الأغلببية البرلمانية، وهو إذا ما تم في ظل التعطش وطول الإنتظار سيكون من حقها أيضاً منفردة أو مؤتلفة تشكيل الحكومة المقبلة. ولعل في جعبة أحزاب المعارضة حسابات خاصة وعامة، فحزب الإصلاح وهو أقوى أحزاب المعارضة، لا أعتقد ان في حساباته مقاطعة الإنتخابات المقبلة، لأن المقاطعة تعني بالنسبة إليه، التراجع خطوات الى الخلف إن لم نقل الإقدام على عملية أنتحار سياسي، فسيفقد أوراقا كثيرة داخلياً و خارجياً. فقد نشر منهجه الفكري، ووسع من قاعدته التنظيمية والسياسية، وبنى ثم نمَّى إمكاناته المالية والإقتصادية انطلاقا من تحالفاته وموقعه من السلطة . أما على المستوى الخارجي، فالإصلاح هوالذي قدم نفسه وبجهد جهيد على انه الحزب 'السياسي' المنفتح و ليس ' الديني ' المنغلق والمتعصب، والذي لديه الإستعداد للتعاطي بمرونة مع تفاصيل صغيرة في العملية الديمقراطية . إضافة الى أنه يمثل الإمتداد الطبيعي للسياسة (الآنية) المعتدلة لحركة الأخوان العالمية. والأمر في المسألة السياسية والتنظيمية ينطبق أيضا على الأحزاب الأخرى في 'اللقاء المشترك'، فحاجتها للمشاركة في العملية السياسية تفرض عليها المشاركة في الاستحقاقات الإنتخابية المقبلة . ومن هنا فأطراف العملية السياسية، ليسوا معنيين فقط بفهم وإستيعاب مسألة التقاسم أو المحاصصة الحزبية في تشكليل اللجنة العليا للإنتخابات، وتوزيع مقاعد مجلس النواب، ومعرفة كل حزب نصيبه في اللجان الإشرافية...الخ، فقضايا وهموم الوطن، لاتقف عند هذا الحد، وإنما هي تتجاوزها الى ماهو أبعد من ذلك بكثير، فهناك قضايا أكثر أهمية، وأعظم خطورة على أمن ومستقبل البلاد من مثل: - تصاعد العمليات الإرهابية، التي تهدد مستقبل البلد سياسيا وأمنيا وإقتصايا، وتهدد أمنه الإجتماعي أيضا . - مسألة الحفاظ على السيادة الوطنية، وخطورة التكالب الدولي القادم على الممرات البحرية المحيطة . - مستقبل العملية التنموية وعلاقاتها بحركة التطور في البلدان المجاورة، ثم تحديد الموقع الذي يجب ان يقف عليه الإقتصاد اليمني مستقبلا. فالحوارعلى صيغ توافقية بشأن القضايا العالقة بين المؤتمر وأحزاب 'المشترك أحزاب المعارضة'، والتوصل الى نتيجة مرضية لكل أطراف العملية السياسية، أصبح هو حاجة آنية ملحة، وقد أخذ وقتا وجهدا أكثر مما يجب، وهاهي الفرصة ألآن- حسبما أرى - مؤاتية للتوافق، الذي تكمن فيه مصلحة الوطن وكل الأحزاب. فقد سئم اليمنيون التباري بالكلمات، وملوا صياح الديكة، واصبح المواطن في شوق ولهفة لرؤية مشهد إنتخابي جديد، يحدد مستوى التجربة التي سيحتفل اليمنيون في ايار (مايو) المقبل 2009 بمرور 19 عاما على قيامها.