شُكَّلتْ فرقة مسلحة، أُنيطتْ بها مهمة إحراق الكتب وقتل الكُتَّاب .. والقراء أيضاً! غير ان احد عناصر هذه الفرقة أصابته "دَلَزَة" ما ذات يوم فإذا به يمد يده إلى إحدى هذه الكتب، قبل أن تطالها ألسنة اللهب، فيُخفيها حتى يخلو له الجو .. وإذا به يقرأ الكتاب، مُقلِّبا ً الصفحة تلو الأخرى، بنَهمَ بالغ الضراوة .. فوجئ الشاب بما يحتويه الكتاب من عوالم خصبة وآفاق رحبة، ملؤها الإبداع الإنساني في أبهى صوره وأرقى معانيه.. ولأول مرة في حياته, يشعر برياح الحرية تحتويه من كل جهاته .. وإذا بوعيه الذي ظل منغلقا ًعلى قداسات مصنوعة من تمر ومصبوبة من خمر .. ووجدانه الذي كان غارقاً في حتميات "الطوطم والتابو والدوغما"، يصفو مُحلَّقاً في سماوات بالغة الصفاء والانفتاح والبهاء .. عزيزي القارئ .. هذه القصة ليست من بنات أفكاري ..إنما هي من أجواء شريط سينمائي - شاهدته منذ نحو ربع قرن من الزمان - للمخرج الفرنسي الشهير"فرانسوا تروفو" بعنوان "451فهرنهايت".. وبالطبع، ليس غريبا ً ما حدث لهذا الشاب، بعد قراءته ذلك الكتاب، إذا عرفنا إنه صار أحد أهداف تلك الفرقة! خلاصة الفكرة أن قوانين ونواميس المجتمع الشمولي من شأنها أن تُحيل أرقى خلق الله - وهو الإنسان- إلى مسخ مُشوَّه الوعي والوجدان.. وأذكر إننا – مجموعة من الأدباء والمثقفين المقيمين في الشطرين قبل الوحدة – كنا نلتقي بعضنا, فنكتشف أن الآخر ليس بعبعا ً مرعبا ً ولا شراً مستطيراً .. فلا الرجعي رجعياً, ولا الشيوعي شيوعياً, ولا الشرطوي شرطوياً, ولا السلطوي سلطوياً .. إنما هي معتقدات قاموسية فرضتها قوانين ونواميس الحظر والمنع والمطاردة والمصادرة والقهر التي كانت سائدة في الشطرين حينها, كل منهما تجاه الآخر .. وهذا على سبيل المثال .. والأمر ذاته ينطبق على كل الناس, في كل زمان ومكان ودولة ومجتمع .. فالمرء عدو ما يجهله .. والبشر وحوش حتى يتعارفوا .. تواترت هذه الخواطر إلى ذهني, إثر خبر لازال يتكرر عن مساع ٍ حميدة لنقابة الصحفيين ووزارة الإعلام لتعديل قانون الصحافة .. إذْ يُحكى عن تقليص مساحة المحظور والممنوع والمحبوس في مشروع التعديل .. وأجدني أُعيد محادثة نفسي الأماَّرة بالسوء: لن تتقلص هذه المساحة السوداء في النصوص, ما لم تتقلص أولاً في الرؤوس!! [email protected] المصدر: السياسية