إذا غضب الله على الشاعر، جعله ينضم إلى حزب، وإذا رضيَ عنه، دعاه إلى الخروج من الحزب! هذا رأيي الشخصي، لا يدَ فيه لأحد من زملائي أو أصدقائي أو رفاقي أو أقاربي أو جيراني أو خصومي. ويكون الشاعر صادقاً حدَّ التمزق وهو يسرد ذكرياته أو مذكراته عن تجربته في الحزب، وتأتي شهادته كوثيقة مكتظة بالحقيقة، لأنها جاءت من داخل البيت، محتشدة بتفاصيله وأسراره، على العكس من أحاديث خصوم الحزب– القابعين خارجه– الذين لم يطأوا يوماً عتبة بابه! تأسيساً على هذه القاعدة؛ يمكننا قراءة كتاب "كنتُ شيوعياً" للشاعر العظيم، والحزبي الخايب، بدر شاكر السياب– رحمة الله تغشاه– الذي صدر مؤخراً، إثر أكثر من أربعين عاماً على نشر فصوله للمرة الأولى كحلقات مسلسلة في صحيفة "الحرية" العراقية مطلع ستينيات القرن الماضي. وبدر شاكر السياب كان من أوائل المثقفين العرب الذين تحزَّبوا فتخرَّبوا– ذهنياً ونفسياً وإبداعياً– ما دَعَتْهم تجربتهم القاسية في كنف، أو كفن، أحزابهم إلى الخروج العظيم أو الهروب الكبير! ولستُ هنا بصدد عرض الهموم والأحزان والانتكاسات التي أصابت السياب في تجربته الحزبية، وهي كثيرة، إنما أكتفي بعرض واحدة منها، لغرض في نفس يعقوب هذه السطور: أحبَّ بدر إحدى رفيقاته في الحزب، كان اسمها مادلين، وكانت يهودية، وكانت حسناء، وقد سلبت قلبه إلى أن جاء يوم اختفت فيه، وطال اختفاؤها، ثم جاءه الخبر– الصاعقة: لقد أفتتن بها الرفيق الأمين العام (وكان بهاء الدين نوري يومها) فأودع رحمها النضالي جنينا ً بلشفياً!! وبعد بضعة شهور، وضعت مادلين في المهد صبياً، فأطلق عليه السياب صفة: "ابن الحزب"!! وفي مذكراته التي تنضح سخرية وتقطر مرارة كالقطران، يقول بدر: "توسَّلنا الجنس، ولجأنا إلى مجالس الخمر من أجل الترويج للشيوعية"!! .. ويضيف بالحسرة ذاتها: "من المعروف جيداً لدى الناس أن هناك طعنين اثنين يوجهان إلى الشيوعي في كل زمان ومكان، هما أن الشيوعي: ملحد، وإباحي. فكان الأجدر بالشيوعيين– أو بقادتهم على الأقل– أن يبتعدوا ما وسعهم عن الجنس وفضائحه، وألاَّ يتطرقوا إلى ما يمس بالأديان"!! وحكى السياب كثيراً من الأمور التي صدمته خلال خوضه هذه التجربة، وبضمنها اعترف حزبه بتقسيم فلسطين– على سبيل المثال– استناداً على تعريف ستالين للقومية، وهو ما يقود إلى حتمية الاعتراف بشرعية حصول اليهود على وطن قومي في فلسطين! كما يسخط على الحَجْر الفكري أو الحَظْر الثقافي الذي كان يفرضه الحزب على قراءات ومعارف أعضائه، بمن فيهم كبار الشعراء والأدباء والمثقفين؛ فلا ينبغي لهم قراءة روايات وأشعار وقصص إلاَّ لأسماء محددة ومحدودة، مثال: جوركي، وتشيكوف، وناظم حكمت، وبابلونيرودا، والأمر ذاته ينطبق على قراءة الصحف والمجلات أو الاستماع إلى محطات الإذاعة!! غير أنني أظن– وبعض الظن ليس بإثم– أن أكثر ما قهر بدر كان موضوع حبيبته والأمين العام و.. "ابن الحزب"!! وقد عرفت شخصياً– في زمن مضى– بعضاً من "عيال الحزب" الذين تفوَّقوا، في ما بعد، على "آبائهم" وأحزابهم في كل ما هو قبيح ونتن وخسيس من قول وفعل وما بينهما!! [email protected] *رئيس تحرير صحيفة الوحدة نقلا عن السياسية