حين تحاول التكتلات القفز على الواقع: قراءة سياسية وقانونية في خطاب استنساخ الماضي .    مئات الوقفات في صعدة بمناسبة عيد جمعة رجب وانتصارا للمقدسات    سوريا: ارتفاع حصيلة انفجار مسجد في حمص إلى 8 قتلى و27 جريحًا    الذهب يقفز لمستوى قياسي جديد    بتوجيهات قائد الثورة .. اطلاق 21 سجينا من "الحربي" بمناسبة جمعة رجب    شاهد / حضور كبير لاحياء جمعة رجب في جامع الجند بتعز    السيّد القائد يحذر من تحركات "طاغوت العصر"    الرئيس المشاط يعزي عضو مجلس النواب علي الزنم في وفاة عمه    ندبة في الهواء    نتنياهو يعلن في بيان الاعتراف بإقليم انفصالي في القرن الأفريقي    ريال مدريد يدرس طلب تعويضات ضخمة من برشلونة    مقتل مهاجر يمني داخل سجن في ليبيا    في بيان صادم للشرعية: قطر تدعم التهدئة في اليمن وتتجاهل وحدة البلاد وسلامة أراضيه    عاجل : بيان مهم صادر عن المجلس الانتقالي الجنوبي    خلال يومين.. جمعية الصرافين بصنعاء تعمم بإعادة ووقف التعامل مع ثلاثة كيانات مصرفية    إعلام الانتقالي: طيران حربي سعودي يقصف هضبة حضرموت وقوات النخبة تسيطر على المنطقة    احياء مناسبة جمعة رجب في مسجد الإمام الهادي بصعدة    ريال مدريد يعير مهاجمه البرازيلي إندريك إلى ليون الفرنسي    الأرصاد: صقيع متوقع على أجزاء من المرتفعات ونصائح للمزارعين ومربي الماشية والنحل والدواجن    الصحفية والمذيعة الإعلامية القديرة زهور ناصر    صرخة في وجه الطغيان: "آل قطران" ليسوا أرقاماً في سرداب النسيان!    طيران العدوان السعودي يستهدف "أدواته" في حضرموت وسقوط قتلى وجرحى    اليمن يتوعد الكيان المؤقت بما هو أشدّ وأنكى    ما بعد تحرير حضرموت ليس كما قبله    كتاب جديد لعلوان الجيلاني يوثق سيرة أحد أعلام التصوف في اليمن    الكويت تؤكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لحفظ وحدة وسيادة اليمن    صنعاء.. تشييع جثامين خمسة ضباط برتب عليا قضوا في عمليات «إسناد غزة»    البنك المركزي بصنعاء يحذر من شركة وكيانات وهمية تمارس أنشطة احتيالية    صنعاء توجه بتخصيص باصات للنساء وسط انتقادات ورفض ناشطين    فقيد الوطن و الساحة الفنية الدكتور علوي عبدالله طاهر    حضرموت تكسر ظهر اقتصاد الإعاشة: يصرخ لصوص الوحدة حين يقترب الجنوب من نفطه    القائم بأعمال وزير الاقتصاد يزور عددا من المصانع العاملة والمتعثرة    البنك المركزي اليمني يحذّر من التعامل مع "كيو نت" والكيانات الوهمية الأخرى    الرشيد تعز يعتلي صدارة المجموعة الرابعة بعد فوزه على السد مأرب في دوري الدرجة الثانية    هيئة التأمينات تعلن صرف نصف معاش للمتقاعدين المدنيين    مدرسة الإمام علي تحرز المركز الأول في مسابقة القرآن الكريم لطلاب الصف الأول الأساسي    لحج.. تخرج الدفعة الأولى من معلمي المعهد العالي للمعلمين بلبعوس.    المحرّمي يؤكد أهمية الشراكة مع القطاع الخاص لتعزيز الاقتصاد وضمان استقرار الأسواق    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    استثمار سعودي - أوروبي لتطوير حلول طويلة الأمد لتخزين الطاقة    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    أرسنال يهزم كريستال بالاس بعد 16 ركلة ترجيح ويتأهل إلى نصف نهائي كأس الرابطة    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    مرض الفشل الكلوي (33)    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مأساة شاعر - يزيد بن مفرغ الحميري
نشر في عمران برس يوم 07 - 03 - 2013

عاقبه عبيد الله بن زياد بن أبيه عقوبة مستهجنة لم يعاقب بها أحد قط. فقيل لعبيد الله كيف اخترت له هذه العقوبة؟ فقال: لأنه سلح علينا فأحببت أن تسلح الخنزيرة عليه. وقال: ما هجيت بشيء قط أشد علي من قول يزيد بن مفرغ:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت
أن ابنها من قريش في الجماهير
ارتبطت حياة يزيد بن مفرغ الحميري بحياة أبناء زياد بن أبيه، أو زياد بن سمية كما كان يدعى، برباط نسجته تصاريف القدر التي اقتلعت أهلهما كلا من بلده إلى الحجاز من جزيرة العرب.
فقد كان والد يزيد بن مفرغ يمنياً استرق ثم اعتق وأصبح حليفاً لآل خالد بن أسيد بن العيص الأموي، وكان يعمل حداداً في تبالة وهي بلدة من البلدات الجبلية كثيرة الخصب جنوب مكة. وتبالة هذه هي التي كانت فيما بعد أول ولاية تولاها الحجاج بن يوسف الثقفي فلما قصدها واقترب منها لم ير البلدة فسأل عنها فقيل له أنها وراء الأكمة فقال: لا خير في ولاية تسترها أكمة ورفضها ورجع عنها محتقراً لها، حتى ضرب بها المثل فقيل (أهون من تبالة على الحجاج).
وهناك روايات تاريخية تقول أن أبا يزيد شاعرنا كان عبداً للضحاك بن عوف الهلالي، وأن نسب يزيد بن مفرغ إلى حمير لم يكن غير دعوى ادعاها. وقد كان لهذا التشكيك في نسب شاعرنا أثر كبير في حياته ومأساته كما سنرى.
أما زياد بن سمية فإن أمه سمية كانت من رقيق الحبشة الذين استرقهم الفرس بعد حملتهم الناجحة لطرد الأحباش من اليمن، وقد أهداها كسرى إلى أحد أقيال اليمن. ويبدو أن الفرس بعد استيلائهم على اليمن قد تركوا لكل قيل من أقيالها حق ما يشبه الحكم الذاتي في قبيلته، كما أصبح شأن البريطانيين في جنوب اليمن فيما بعد.
وكان القيل اليمني أبو الجبر يزيد بن شراحيل الكندي أحد هؤلاء الأقيال السلاطين أو الملوك وقد ذكره ابن دريد في قصيدته المقصورة الشهيرة فقال:
وخامرت أبو الجبر جوى
حتى حواه الحتف فيمن قد حوى
أبو الجبر هذا كان قد ثار عليه قومه وعزلوه فخرج إلى فارس يستعدي عليهم كسرى، فبعث كسرى معه جماعة من الأساورة وأخذوا طريقهم عبر العراق متجهين إلى اليمن، فلما وصلوا إلى كاظمة ونظروا إلى وحشة البلاد وقلة خيرها شعروا أن ما وراءها من بلاد أقل خيراً وأشد وحشة فأغروا طباخ أبو الجبر فوضع له السم في طعامه.
فلما اشتد المرض بأبي الجبر انتهز الأساورة الفرصة ودخلوا عليه وقالوا له: لقد ساءت صحتك حتى أصبح المسير معك غير ذي معنى، فاكتب إلى كسرى أنك قد أذنت لنا بالرجوع ودعنا نمض إلى بلادنا، فكتب لهم بذلك فانصرفوا عنه. ثم إن القيل اليمني أبو الجبر تحسنت صحته نوعاً ما فأمكنه السفر، فتوجه إلى الطائف يلتمس الشفاء على يد الطبيب الشهير الحرث بن كلدة فعالجه حتى شفي، فكان من جملة ما كافأ أبو الجبر به الطبيب عبداً وجارية هما سمية وعبيد.
وكان الحرث بن كلدة عقيماً لا يلد، ويبدو أنه أخذ يتكسب من ثدي جاريته سمية، فولدت سمية زياداً، ومن هنا نشأت علاقة أبي سفيان بن حرب بسمية، حيث قام معاوية بن أبي سفيان في آخر المطاف بإستلحاق زياد بن سمية بآل أبي سفيان وسماه زياد بن أبي سفيان.
وبعد أن كانت العصور التي سبقت ظهور البعثة النبوية عصوراً انقسم فيها الناس إلى طبقات على أساس من النسب الذي ترسم بموجبه الحظوظ والحدود، كانت الأحداث التي توالت تفعل فعلها في المجتمعات الآسنة، وكأنها براكين وزلازل ترفع ما انخفض وتخسف بما ارتفع وتدكه لتحيله هباءً منثوراً.
وكان أكبر هذه الزلازل وأفعلها أثراً في الأوضاع الاجتماعية، الدعوة الإسلامية التي وصمت الاعتداد بالأنساب والتفاخر بهما بالجاهلية، ودعت إلى المساواة بين الناس فلا فضل لعربي على عجمي ولا لحر على عبد إلا بتقوى الله. وهكذا أتيحت الفرصة لكل ذي موهبة، بغض النظر عن منبته وأصله ونسبه، فرص القيادة والرياسة سواء في ذلك قيادة الجيوش أو ولاية الأمصار أو الرئاسة العلمية والتميز الثقافي فكان من أثر ذلك على شخوص قصتنا هذه أن أصبح أبناء سمية من أعلام العالم الإسلامي ونجومه اللامعة، وأن نبه شأن ابن الحداد العتيق يزيد بن مفرغ ليصبح شاعراً يشار إليه بالبنان.
ولكن هذا الجو المساعد لذوي الموهبة والطموح لم يلبث أن أخذ يذوي بفعل العصبية التي أخذ الحكم الأموي يعلي من شأنها، باعثاً إلى الحياة رذائل التمييز العنصري والتفاخر بالأسلاف والأنساب، في ردة مشهورة في التاريخ الإسلامي، شوهت مسيرة المجتمع وحرفته عن الطريقة التي شرعها الله نهج عدالة ومساواة.
وقد أحوج جو الردة هذا شاعرنا يزيد بن مفرغ إلى نسب طنان، وأحوج زياد بن سمية وهو الشخصية القوية اللامعة النابهة الممتلئة بالمواهب إلى التلطي بآل البيت الأموي والبحث عن نسب فيهم يدعم مكانته التي تبوأها بمواهبه الجمة، وليجعل من الاتجار بالمبادئ والعقيدة سبيلاً لاستدامة السلطان.
وفي جو الردة الناشئة هذه نشأ شاعرنا يزيدبن زياد بن ربيعة بن مفرغ بن ذي العشيرة بن الحرث بن دأل بن عوف بن عمر بن يزيد بن يحصب الحميري. شاعراً غزلاً محسناً اتصف شعره بالجزالة والعذوبة معاً كما تميز بالسلاسة والغنائية صادراً عن طبع لا عن تكلف تتناقل الشفاه شعره وتستشهد به فنبه شأنه واتصل بكبار البيت الأموي وقد بلغ من تأثير شعره أن روت المصادر التاريخية أن الحسين بن علي رضي الله عنهما كان يستشهد كثيراً ببيتين ليزيد بن مفرغ هما:
لا ذعرت السوام في غلس
الصبح مغيراً ولا دعيت يزيداً
يوم أعطى على المخافة
ضيماً والمنايا يرصدنني أن أحيداً
ومن أمثلة شعر يزيد بن مفرغ الجميل وغنائيته قوله:
أصرمت حبلك من أمامه
من بعد أيام برامة
فالريح تبكي شجوها
والبرق يضحك في الغمامة
لهفي على الأمر الذي
كانت عواقبه ندامة
تركي سعيداً ذا الندى
والبيت ترفعه الدعامة
ليثاً إذا شهد الوغى
ترك الهوى ومضى أمامه
ثم يبلغ قمة أخرى مع تضمين الحكمة في ثنايا هذا الشعر العذب فيقول:
يا هامة تدعو صدى
بين المشقر واليمامة
فالهول يركبه الفتى
حذر المخازي والسآمة
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
ولا شك أن شاعرنا يزيد بن مفرغ كان يستشعر ذلك الانحراف عن نهج العدالة والمساواة، ويسخط عليه أشد السخط وقد ظهر ذلك في شعره. فالبيتان اللذين قدمناهما بين يدي هذا الحديث، واللذان هجا بهما عباد بن زياد بن سمية، يحملان سخرية مريرة من هذا الإنحراف فهو إذ يقول في البيت الأول:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير
يشير بوضوح إلى أن الرجل عاطل من المواهب فلم يصل إلى منصبه مستحقاً له وإنما وصل إليه بتأمير غيره له. ثم لا يلبث في البيت الثاني أن يشير إلى أن الرجل لا يستحق منصبه حتى ضمن منطق العصبية والاعتماد على النسب، لأن نسبه في قريش مدخول.
عاشت سمية ما عاشت وما علمت
أن ابنها من قريش في الجماهير
ونرى مرارة وسخرية واستنكاراً ينطق بهما شعره في ثنايا بيتين من قصيدة أخرى يمدح بها مروان بن الحكم الأموي قبل أن يتولى الخلافة، وقد كان يحسن إليه إذ يقول:
وأقمتموا سوق الثناء ولم تكن
سوق الثناء تقام في الأسواق
فكأنما جعل الإله إليكموا
قبض النفوس وقسمة الأرزاق
والمتأمل في البيتين يرى الذم مغلفاً بالمديح فيهما. فالبيتان يكادان يصرحان باستنكاره لبدعة إقامة سوق للثناء يباع فيها المديح ويشترى مع أن ذلك خلق نهى عن الإسلام. ثم يلخص تسلط بني أمية على رقاب العباد في البيت الثاني، ليوجز فيه صورة بليغة لتحكمهم في النفوس والأرزاق، وهما أمران اختص الله بهما نفسه، فكأن بني أمية قد أباحوهما لأنفسهم ونصبوا ذواتهم أرباباً من دون الله.
ولقد عزز من سخط يزيد بن مفرغ على جو العصبية والعنصرية الذي أشاعه الحكم الأموي، أن نباهة شأنه كانت ثمرة تميز شعره وموهبته في مجتمع يعلي من مكانة الشاعر ويقدر الشعر، ومع ذلك يجد نفسه مضطراً إلى التكسب بشعره مدحاً لأناس يراهم لولا أنسابهم أقل شأناً منه وقيمة، ومع ذلك يتمتعون بالمال العام، لمجرد أنهم ولدوا على فراش فلان أو علان، وهو سخط تمده أحكام الشريعة بالمشروعية، وتزيد في إحساس شاعرنا بالظلم الذي يحيق به وبغيره عندما يأخذ حقوقهم في بيت المال من لا يستحق.
ومن هنا كانت جميع تصرفاته وخاصة المصيرية منها وليدة هذا السخط والشعور بالظلم.
فقد حدث أن ممدوحه سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد كان يحبه ويقربه، تولى ولاية خراسان فعرض على يزيد بن مفرغ أن يصحبه فأبى، واختار عليه صحبة عباد بن زياد بن سمية، وكان والياً على سجستان، فقال له سعيد بن عثمان "أما إذا أبيت أن تصحبني وآثرت صحبة عباد فاحفظ ما أوصيك به: إن عباداً رجل لئيم فإياك والدلالة عليه. وإن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك وأقلل من زيارته فإنه ملول، ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله".
وترينا وصية سعيد هذه كيف أن يزيد بن مفرغ كان معتداً بنفسه كثير الدلالة على ممدوحه يرفع الكلفة بينه وبينه. وأنه كان فخوراً يفاخر بقومه اليمانيين كبار بني أمية الذين هم في الهامة من قريش.
ويبدو أن اختيار يزيد بن مفرغ الذهاب مع عباد بن زياد بن سمية، على الرغم من كل التحذير الذي تلقاه، كان محاولة للتساوي، أو الاستعلاء بمواهبه بالأحرى على من يعرف أن نسبه مجرد دعوى لا تصح. وبذلك يخفف عن نفسه ثقلاً يستشعره إزاء أولئك المعتدين بالنسب العريق الصحيح الذي لا يملكه هو.
ومثل هذا التصرف نشهده يتكرر مرة أخرى في عصر آخر ومع شاعر آخر، وأعني بهما العصر العباسي الثاني وأبي الطيب المتنبي، عندما اختار كافوراً الإخشيدي، الذي كان مملوكاً أسود أوصلته مواهبه إلى ملك مصر، ممدوحاً له بدلا من سيف الدولة الحمداني العربي الصريح النسب. فقد كان أبو الطيب المتنبي يعاني من أقاويل حول نسبه المجهول من جهة، ومن طموحه الحراق إلى النباهة في أعلى مراتبها وهي السلطة السياسية من جهة أخرى، مع اعتداده بنفسه وإدراكه لقيمة مواهبه.
فكان اختياره لكافور محاولة كمحاولة يزيد بن مفرغ للهروب من ثقل الشعور بالدونية في مجتمع عاد إلى ما يشبه جاهلية ما قبل الإسلام، وأخذ الناس فيه يتفاخرون بالآباء ويتميزون بالأحساب والأنساب.
ومن المثير للانتباه أن كلا الشاعرين المبدعين انتهيا إلى هجاء ممدوحيهما بعد أن خابت آمالهما كل في صاحبه، وتكتمل المأساة بأن ينصب هجاؤهما على نسبي صاحبيهما، فكان في ذلك لدليل القاطع على مدى تأثير مسألة النسب هذه في نفس الشاعرين، وأنهما وقد استحكم في نفسيهما الشعور بالدونية الذي يفرضه عليهما مجتمع عنصري التفكير، قد وجدا أخيراً ضحيتين يذيقانهما من كأس طالما عانى مذاقها المركل منهما، فأحالت حياته إلى سلسة من المنغصات كان يزيدها مرارة طموحهما واعتدادهما بمواهبما.
صحب يزيد بن مفرغ عباد بن زياد بن سمية إلى ولايته، فأنشغل عنه عباد بحروبه وبجمع الخراج في أنحاء الولاية، وانقطع عنه مدة بينما شاعرنا مقيم في حاضرة الولاية يستدين مصروفه من تجارها. فلما طال به ذلك الإهمال ضاق صدره فبسط لسانه على عباد وهجاه في شعر كان ينشده سرا لمن يظنهم أصدقاءه. ولكن الشعر كان يصل إلى عباد بن زياد فظل يتحين له السقطات ليوقع به.
وجاءت قاصمة الظهر في يوم سار فيه شاعرنا مع عباد بن زياد، وكان عظيم اللحية جداً، فدخلت فيها الريح فنفشتها، وكان يصحبهما رجل من لخم فأسر إليه يزيد بن مفرغ بيتاً قاله على البديهة يسخر فيه من لحية عباد قائلاً:
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً
فنطعمها خيول المسلمينا
فأوصل اللخمي البيت إلى عباد سراً فغضب غضباً شديداً وقال لمن معه: "لا تجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع صحبته لي وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي منه فإنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواضع" وبلغت مقالة عباد هذه يزيد بن مفرغ فقال لمن معه: "إني لأجد ريح الموت من عباد" ثم دخل عليه فقال: "أيها الأمير إني كنت مع سعيد بن عثمان بن عفان وقد بلغك رأيه في وجميل أثره عليَّ، وقد اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل، وأريد أن تأذن لي بالرجوع فلا حاجة لي في صحبتك" فقال له عباد: "أما اختيارك لي فقد اخترتك كما اخترتني، واستصحبتك حين سألتني، وقد أعجلتني عن بلوغ حجتي فيك، وطلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم، وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك".
ولم يلبث عباد بن زياد بعد هذه المواجهة أن خشي من إفلات شاعرنا منه، فأوعز إلى التجار الذين كان يستدين منهم شاعرنا بأن يطالبوه بما لهم ففعلوا، فلم يتمكن من الدفع، فحبسه عباد وضربه ثم بعث إليه يطلب منه أن يبيعه قينته الأراكة وغلامه برد ليقضي بعض ديونه، وكانا تربيا في كنف شاعرنا، وكان شديد المحبة لهما، فرد عليه قائلا: "أيبيع المرء نفسه وولده" فأخذهما عباد قسراً وباعهما بالدين، ولم يكتف عباد بذلك بل أمر حاجبه بأخذ سلاح يزيد بن مفرغ وفرسه وأثاثه وبيعها وقسمة أثمانها بين الغرماء ففعل.
فما كان من شاعرنا إلا أن هجاه هجاء مراً ضمن قصيدته التي عرضناها آنفاً والتي يقول فيها:
لهفي على الأمر الذي
كانت عواقبه ندامة
تركي سعيداً ذا الندى
والبيت ترفعه الدعامة
حتى يقول:
وتبعت عبد بني علا
ج وتلك أشراط القيامة
جاءت به حبشية
سكاء تحسبها نعامة
من نسوة سود الوجوه
ترى عليهن الدمامة
وشريت برداً ليتني
من بعد برد كنت هامة
وعلاج هذا هو جد الطبيب الحرث بن كلدة في الطائف.
ويجد على فقد غلامه برد وجداً شديداً فيقول:
شريت برداً ولو ملكت صفقته
لما تطلبت في بيع له رشداً
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي
من الحوادث ما فارقته أبداً
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولداً
ثم أن يزيد بن مفرغ بعد أن طال به المقام في حبس عباد أخذ يحتال للخلاص. فكف لسانه عن عباد حتى أنه كان يقول لمن يسأله عن سبب حبسه: "إنما أنا رجل أدبه أميره ليقوم من أوده ويكف عن غربه وهذا لعمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة صاحبه" فلما بلغت مقالته هذه عباداً رق له وأخرجه من الحبس ففر إلى البصرة، وخرج منها إلى الشام ينتقل في مدنها هارباً يهجو زياداً وولده، ولم يسلم منه معاوية ولا أبو سفيان فقال فيهم:
إذا أودى معاوية بن حرب
فبشر شعب قد حك بإنصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمراً فيه لبس
على وجل شديد وارتياع
كما قال هاجياً ساخراً:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الإتان
وأشهد أنها ولدت زياداً
وصخر من سمية غير دان
ولم يزل يزيد بن مفرغ يتنقل في قرى الشام، والناس تتناقل أشعاره في هجاء بني زياد من الشام إلى العراق. فكتب عبد الله بن زياد أمير العراق إلى يزيد بن معاوية: "ان يزيد بن مفرغ هجا زياداً وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر، وتعدى إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده، وهرب من خراسان وطلبته حتى لفظته الأرض، وهرب إلى الشام يتمضغ لحومنا ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما قد هجانا به لتنصف لنا منه".
فأمر يزيد بالبحث عنه والقبض عليه. فظل يهرب متخفياً حتى لفظته الشام، فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس فاستجار به فلم يجره قائلاً له: "إنما يجير الرجل على عشيرته أما على سلطانه فلا" فجرب غيره فلم يجره أحد، فأجاره المنذر بن جارود العبدي وكانت ابنته زوجة لأمير البصرة عبيد الله بن زياد بن سمية، وكان المنذر من أكرم الناس عليه.
فلما علم بأنه أجاره وآواه في منزله، استدعاه عبيد الله وأرسل الشرطة سراً فكبسوا داره بينما هو عند الأمير وقبضوا على يزيد بن مفرغ، فلم يشعر ابن الجارود إلا بابن مفرغ أمامه فقام بن الجارود إلى عبيد الله قائلاً: "أذكرك الله أيها الأمير أن تخفر جواري فإني قد أجرته" فقال عبيد الله: "ليمدح أباك ويعدد حسناتك وقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره علي لاهاالله لا يكون ذلك أبدا ولا أغفرها له".
فغضب المنذر وخرج وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له: "بئس ما صحبت به أخي عباداً" فقال: "بئس ما صحبني عباد اخترته لنفسي على سعيد بن عثمان وانفقت على صحبته جميع ما أملكه، وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش، فعدل عن ظني كله ثم عاملني بكل قبيح وتناولني بكل مكروه من حبس وغرم وضرب وشتم، فكنت كمن شام برقاً خلباً في سحاب جهام فأراق ماءه طمعاً فيه فمات عطشاً، وما هربت من أخيك إلا لما خفت أن يجري فيما يندم عليه، وقد صرت الآن في يدك فشأنك فأصنع بي ما شئت".
وعلى الرغم من هذه المرافعة البليغة الرائعة أمر عبيد الله بحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يستأذنه في قتله، فكتب إليه يزيد: "إياك وقتله ولكن تناوله بما ينكله ويشد سلطانك ولا يبلغ نفسه فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي لا ترضى قتله - يعني اليمانية - ولا تقنع إلا بالقود منك فأحذر ذلك وأعلم أنه الجد منهم ومني، وأنك مرتهن بنفسه ولك في دون تلفها مندوحة تشفي الغيظ".
وكأن يزيد بن معاوية استشار قادة اليمانية في بلاطه فرضوا التأديب دون القتل. فما كان من عبيد الله بن زياد بعد أن بلغه كتاب الخليفة يزيد بن معاوية، إلا أن أمر بأن يسقى يزيد بن مفرغ نبيذا حلواً قد خلط معه الشبرم، وهو دواء مسهل، فأسهل بطنه وقرنوه رباطاً إلى خنزير وهره يسحبانه في شوارع البصرة، فكان يسلح والخنزير يقوده والصبيان يتبعونه ويصيحون عليه وكثر منه الإسهال حتى أضعفه فسقط فأمر عبيد الله بفكه وغسله فلما أغتسل وأستعاد بعض قواه قال مكابراً:
يغسل الماء ما فعلت وقولي
راسخ منك في العظام البوالي
وقد صدق يزيد بن مفرغ الحميري فلا زالت الأجيال تتناقل هجاءه في زياد وبنيه وتتندر عليهم من جرائها أما ما لقيه الشاعر من عذاب فلا يستثير في النفوس إلا مزيداً من التأييد له على مواقفه من زياد وآل زياد وهو بعد لطخة من أشد اللطخ سواداً في تاريخهم المليء بالبقع السوداء منذ اختاروا الدنيا على الآخرة والهوى على الحق:
وقد أخذت له صروف الزمان من ذلك الذي فعل به تلك الفعلة الشنيعة عبيدالله بن زياد، فقتله ابراهيم بن مالك الاشتر قائد جيش المختار، فقال ابن مفرغ شامتا:
ان المنايا اذا ما زرن طاغية
هتكن استار حجاب وابواب
اقول بعدا وسحقا عند مصرعه
لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي
لا انت زوحمت عن ملك فتمنعه
ولا متت الى قوم باسباب
لا من نزار ولا من جذم ذي يمن
جملود ذا القيت من بين اسباب
لاتقبل الارض موتاهم اذا قتلوا
وكيف تقبل رجسا بين اثواب
ولا أجد خيراً لختام هذا العرض لمأساة الشاعر المجيد من أبيات جميلة له تذكرنا بشعره السلس العذب السهل الممتنع:
ألا طرقتنا آخر الليل زينب
سلام عليكم هل لما فات مطلب
وقالت تجنبنا ولا تقربننا
فكيف وأنتم حاجتي اتجنب
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب
فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب
لقد جل خطب الشيب أن كان كلما
بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
رحم الله يزيد بن مفرغ،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.