حين نعادي المسرح في المدرسة والشارع وفي كل وسائل الإعلام، لا يجب أن نندهش من عزوف الجماهير عنه؟ حين يختفي مشروع المسرح المدرسي ويتواري تقريباً حتي يصبح لا وجود له، وحين نوافق علي ما تقدمه وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات من مجموعة المشاهد الرخيصة التي تتخللها الإعلانات ونسميها مسرحاً! بل ويتم تقديم هذه المشاهد بواسطة أهل المسرح، وحين نضع علي رأس المؤسسات المسرحية أفقر الشخصيات التي تتمع بقدر لا بأس به من الجهل وعدم الموهبة ونتركهم يدمرون هذه المؤسسات دون قصد، لتدار بدون رؤية أو استراتيجية، ثم نسأل أين الجماهير ؟ فنحن نكره المسرح وننظر إليه كميراث عتيق تركه لنا الأجداد، بل ويجب التخلص منه . بنظرة سريعة للمسرح في المؤسسة الرسمية التي أحكمت قبضتها عليه منذ ستة عقود تقريباً سنجد أن التقاليد المسرحية قد ضاعت وسادت روح البيروقراطية، بعد أن أصبحت الكلمة العليا لسلطة الأجهزة الإدارية علي حساب احتياجات الإبداع المسرحي، نحن نكره الفن نحن نكره الحياة ناهيك عن استبعاد العروض المسرحية التي لا تتوافق ومصالح هذه المؤسسة ولا تخدم أهدافها في كل العصور، وبدلاً من مسرح الرواد المستقل في النصف الأول من القرن العشرين، عرفت مصر في سبعينات القرن الماضي أرخص أنواع المسرح التجاري الذي انهارت معه التقاليد المسرحية،وأصبحت أهواء أنصاف المخرجين ونزوات الصف الثاني من الممثلين هي التي تقود المسرح وجمهوره من الأغنياء الجدد الذين أفرز تهم مرحلة الانفتاح الاقتصادي بل وراحت مسارح المؤسسة الثقافية الرسمية تغازل طرائق وأساليب هذا النوع الرخيص من الفن،بدلاً من مواجهته، في الوقت الذي بدأ المجتمع يتهاوي ويتخلي عما تبقي من قيم ومبادئ، ويستعير ما هو زائف من هنا وهناك، ولأن المسرح في إحدي تجلياته نتاج اجتماعي، بدأ المسرح والمجتمع معاً يضلان الطريق و حتي وقتنا هذا، ليصبح معني المسرح في أذهان أهله مجرد أزمة، وفي وجدان جمهوره مجرد أداة للضحك والتسلية،وحين عثروا علي مصادر أخري للتسلية انصرفوا عنه حين أشبعوا نزواتهم، ليتواطأ الجميع حول هذه النتيجة أو أقل استسلموا لها . فهل بعد ذلك نسأل عن المسرح والجمهور، فمنذ سبعينات القرن الماضي والمسرح يتم تدميره بخطوات ثابتة، ونحن من فعل هذا، والنتيجة هي أن الجمهور ظن أن المشاهد الرخيصة التي تقدمها الفضائيات هي المسرح ! والأمر لا يختلف كثيراً حين تختار وزارة التربية والتعليم للتلاميذ أسوأ النماذج لتدريسها في المدارس تحت عنوان الشعر، حين تخجل من صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، وتسمح بقطعة لأحمد شوقي علي مضض، وتفضلّ عليهم شعراء العصر الجاهلي، فمن الطبيعي أن يكره التلاميذ في المرحلة الثانوية الشعر، وحين تعتمد لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة سياسة الدور والأقدمية والأكبر سناً لمنح جائزة الشعر . حين تعتبر لجنة الشعر أن شعر العامية المصرية درجة ثانية ولا يستحق جائزة، وأنه لابد من إقامة مهرجان مستقل لشعر العامية لابعاده عن الفصحي حتي لا يصاب بالعدوي، ولا تعترف بأهمية بيرم التونسي وفؤاد حداد ومرسي جميل عزيز وحسين السيد وسواهم ممن شكلوا وجدان المصريين، وحين يتم ارتكاب كل الأخطاء باسم الشعر في ملتقي يحمل اسم الشعر، وحين يكون الشعراء أهم من الشعر، حين يقام ملتقي للشعر ونختار أيضاً أسوأ النماذج لتمثيل الشعر فنحن نكره الشعر دون شك، وأيضاً نكره المسرح، نكره الفن ونكره الحياة، ولا استبعد أن تنقرض هذه الأنواع في صورتها التي نعرفها، ويصبح المسرح فقط ما يشاهده الجمهور في الفضائيات، والشعر ما يستمع إليه تحت اسم أغاني المهرجانات ! وحين يفكر البعض في إلغاء حصة الدين من المنهج الدراسي للحد من التطرف والتعصب أمر أشبه بمن قرر قطع " رجل " بكسر الراء والجيم من يرتدي حذاء متهالكاً، حتي يتخلص من هذا القبح، فبدلاً من تحسين مستوي الحذاء، الحل الأسهل والأغبي بالطبع هو قطع هذه الساق ليكون صاحبها كسيحاً ، كل هذا حتي لا يتعب هذا أو ذاك في تحسين مستوي الحذاء !وظني أن إلغاء حصة الدين يساعد علي التطرف، فالدين بطبيعته لا يدعو إلي التعصب أو التطرف بل من يضع المنهج، ومن يقوم بتدريسه لا أكثر ولا أقل، فهؤلاء يضعون مناهج علوم أخري مثل التاريخ علي سبيل المثال، حيث قاموا بتقصيله وفقاً لأفكارهم ومعتقداهم المتطرفة والمتخلفة، فهل سنلغي أيضاً حصة التاريخ، أم نضع منهجاً وطنياً بواسطة علماء لا أنصاف متعلمين ؟ وفكرة إخفاء الأخطاء تحت الردم فكرة تروق للحكومات المصرية منذ سنوات، فبدلاً من إصلاح العشوائيات أو حتي الأحياء الشعبية المتوسطة تتركها تتآكل وتنفجر وتبني أحياء جديدة، تتآمر علي الأراضي الزراعية وتبيعها للمستثمرين للتحول إلي غابة من الأسمنت، ثم تستصلح الصحراء الجرداء، حيث أسهل الحلول مثل البائع السرّيح الذي يسعي إلي المكسب اليومي والسريع أما المستقبل فليس في قاموسه من الأصل ! وبالطبع لا يمكن أن تفكّر الحكومة بمنطق البائع السرّيح ! ولكن هذا ماحدث، ونظرية قطع " الرجل " بدلاً من تحسين مستوي الحذاء نظرية عامة وسائدة بقوة، فهي أسهل الحلول، ومن فكر في إلغاء حصة الدين يتفق مع من استبعد الشعر الحديث من المناهج التعليمية لأنه لا يتفق معه وترك طلاب الصف الأول الثانوي يواجهون عنترة بن شداد شاعراً وهم لا يعرفون صلاح عبد الصبور الأقرب إلي وجدانهم، وهم يعتقدون أن بيرم التونسي شاعر من الدرجة الثانية لأنه لايكتب اللغة الفصحي الرصينة، لأنه يكتب لغة المصريين، ودون شك أمام هذا التناقض يكره الشباب الشعر وهم في بداية حياتهم، وبالطبع هذا لايعني اعتراضي علي تدريس الشعر الجاهلي الذي أحبه كثيراً، ولكن علي صدمة التلاميذ في سن مبكرة مع لغة غريبة، بالإضافة إلي جهل واضعي هذه المناهج وتصميمهم علي الحياة في القواميس بدلاً من الواقع ! فماذا سيحدث لو تم تدريس قصيدة لبيرم التونسي في كتاب القراءة وأخري لصلاح عبد الصبور وأحمد شوقي وأدونيس ومحمد الماغوط ونزار قباني، فهل سيكفر هؤلاء باللغة العربية، دون شك سيحدث العكس سيحب هؤلاء اللغة والشعر، بل سيبحثون بأنفسهم فيما بعد عن أمرئ القيس وعنترة والنابغة والبحتري وأبي تمام والمتنبي وسواهم . ولكن الأسهل استبعاد الشعر الحديث الأقرب إلي هؤلاء التلاميذ وفرض لغة غريبة عليهم بالقوة الجبرية ، والغريب هو فكرة الوصاية علي العقول والتفكير بدلاً من الجمهور، فمن اعتقد أن هذا النوع من الشعر هو ما يناسب التلاميذ وحجب عنهم الأنواع الأخري هو نفسه من قرر أن هذه المشاهد الرخيصة في الفضائيات ما يناسب الجمهور من المسرح !