صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة نقدية : سُلطة الاسم وسُلطة السياق وسُلطة تحرير الذات مما يستعمرها ..!!
نشر في أوراق برس يوم 04 - 06 - 2013

يرى النحاة أن كلمة" أسم" ، ثلاثية الأصل، وأن همزة الوصل فيها بدلاً من لام الكلمة المحذوفة، والأصل (سمو) . وهذا رأي البصريين.
لكن مقارنة اللغات السامية تدل على أن هذه الكلمة مع كلمات أخرى كثيرة، مثل يد ، ودم ، ذات أصل ثنائي.
في العبرية : شِمْ shem
وفي الحبشية : سم sem
وهذه المقارنة تدل على أن ما ذهب إليه النحاة القدامى، لا يمت إلى الصواب، وذلك لجهلهم اللغات السامية.
· تُعتبر الأسماء واختيارها من أصعب ما يواجه الكاتب الروائي والقصصي والمسرحي عموماً، ومثله الناقد الذي قد يضطر أحياناً إلى إغفال مسألة تناول الأسماء أو التعرض لها بالشرح والتحليل والتفسير في النص وعلة اختيارها لعدة أسباب، من ذلك عدم وجود مغزى للكاتب في اختيارها، أي أن هذا الأخير كان عشوائياً، ومنها حقيقة الأسماء وواقعيتها ، بيد أن ثمة أعمال أدبية كثيرة كانت صناعة واختيار الأسماء فيها لها حساباتها الخاصة والدقيقة ، ولها أهدافها وجذورها التي تضرب في عمق القضايا النفسية والفلسفية للذات الإنسانية ، ولعل أكبر تجسيد لهذا ومما نأخذه كمسوغات وبراهين لما نرمي إليه حكايات "ألف ليلة وليلة " التي رغم كونها مجهولة الهوية بيد أنّ عظمة هويتها تقترن بالدقة في صنع وحبك التفاصيل الجوهرية للعلاقات الإنسانية، والاحتراف والدقة والبراعة في رسم الشخصيات، والمعرفة العميقة بخبايا النفس البشرية وما تحمله من تناقضات، ولعل مما يدهشنا فيها وهو ما نحن بصدده قضية اختيار " الأسماء " والمهارة في صناعتها لتتوائم مع مقتضى الحال، إذ كانت وفق معايير وقواعد نفسية دقيقة، تُجسّد السلطة التي يمتلكها الاسم وتتحكم في حياة الإنسان وطبيعتها، أيضاً تصف كيف يشارك الاسم في رسم ملامح الشخصية الإنسانية وتشكيل ملامحها في إطار سياق عام ومنظومة تحكي براعة الصانع وخبرة البنّاء في رصف الحجر، وتصف مشاركة الاسم في تشكيل التركيبة السيكولوجية والفسيولوجية، من ذلك وكمثال شخصية "علي الزئبق"، هذه الشخصية تتسم طيلة الحكايا التي تدور في فلكها وضمنها بصفة الزئبق الذي يستحيل إمساكه مثلما يستحيل إمساك علي الزئبق أو القبض عليه، كذلك شخصية " النحّاس " والذي يقترن بالنحس طيلة الحكاية وفي أي عمل كان يقوم به، وبالمثل نجد شخصية "باسم الحداد" والتي تدور حكايتها في فلك "الحِداد" وهو حداد الموت "ثلاثة أيام "، أما الأسم الأول "باسم " فعبر عن القصد من الحداد ويستهل به كقولنا "بسم الله " ولكن بدون التضييق على ألف الوصل، وهذا المعنى للاسم يُجسد المعنى الإجمالي من الحكاية وفلك موضوعها، فباسم الذي كان عاملاً على باب الله ،ليس له أُسرة يُعيلها، كان يخرج من مسكنه صباحاً لكسب ما يحتاجه في سبيل إحياء ليلته، إلى أن يزوره أمير البلاد ووزيره متنكرين بعد أن يُغريهما مشهد مسكنه إذ كان مبعث خروجهما بهذه الأزياء وهذا التنكر البحث عن المتعة واللهو والأنس والمؤانسة، فيأتي مشهد مسكنه بنوافذه المشرعة التي ينبعث منها الضوء، وصوته الذي يُدندن بهِ، فيُشاركاه أمسيته، ويأخذ هو في وصف طريقة عيشته لهما، والتي يستسيغها الأمير ويروقه الالتفات إليها، لغرابتها وسذاجتها والطرفة التي تضج بها، يتبسم الأمير من ثمّ وقد راقه الأمر وانتابته رغبة عارمة في كسب شيءٍ من المتعة مع باسم المسكين الذي لم يعلم ما دار بخلد الأمير وما خبئه له القدر..!!
وعليه ومن ذلك نكتشف أن السلطة التي كانت تتحكم في مسار الحكاية هذه والحكايات جميعاً وما دار في فلكها والطبيعة الجوهرية للشخصيات أيضاً كلها كانت مرهونة بالاسم وسُلطته، ولعل أهم النظريات التي تتناول هذه التقنية بدقة نظريات نشأة اللغة للعالم العربي أبو الفتح عثمان بن جني التي أوردها في كتابه الخصائص وأفرد لها بابين الأول " تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني " والآخر " إمساس الألفاظ أشباه المعاني "، كذلك نجد هذا النوع من التقنيات ضمن ما ميزه ريفاتير من أنماط الاشتقاق المزدوج الخاص بالأسماء والعناوين وتقنيتها كما في كتاب " قراءة في قصيدة النثر "لسوزان برناد ويعددها :
2- يمكن وضع اشتقاقين معاً في النص ولكنهما متنافران دلالياً إلى حدٍ ما ومثال ذلك نص "سطوع القمر" لكلوديل الذي عالج موضوعاً هو القمر مع أخبار خاصة بالشمس .
- ومن الأعمال الأدبية والروائية العالمية التي تجسد هذه الفكرة " رواية الجبل الخامس " للروائي البرازيلي " باولو كويلهو " الذي يشتهر باستغراقهِ العميق في ثقافة الشرق وروحانياته ، مستلهماً منها موضوعات رواياته غائصاً في سراديب النفس البشرية ، محاولاً إعطائها بعدها الحضاري ورابطاً لها بمتغيرات العصر وتقنياته ومتطلباته ، كما يتجسد هذا في روايته " الخيميائي " و"حاج كومبوستيلا" و " الظاهر" وغيرها ، وفي رواية " الجبل الخامس" تطرق كويلهو في تفاصيل الجزئية ما قبل الأخيرة تحديداً وهو من أكثر ما يُثير الإعجاب عندما يشرع بطل الرواية في بناء المدينة المدمرة من الأعداء الغزاة وعندما تصبح المدينة مجرد أطلال وخرائب فيشرع بطل الرواية إلى إعادة إعمارها مع من تبقى معه من الأطفال والنساء والشيوخ ومحاولةً منه لبث روح الحماس في قلوب تلك الثلة الباقية من أجل الثبات من اجل حبهم للمدينة ، فيكون طلبه إليهم بأن يكتشف كل فردٍ منهم في نفسه أسماً يتسمى بهِ غير حروف أسمه المدونة في شهادة ميلاده المسمى بها من قبل والديه ، يتصف بخروجه عن نطاق الحياة التقليدية الرتيبة ومن ثم يصبح هدفاً بحد ذاته يتجاوز به الفرد مرحلة اليأس والإحباط ويعبر به عن طموحه ويثبت من خلاله كينونته ووجوده كعنصر فاعل في هذه الحياة وأيضاً استحقاقه وجدارته لأن يعيشها، كما أّنه يُعرِّف بوظيفتهِ الأساسية في الحياة ويصف خطته بها وبرنامجه وأفكاره وتطلعاته فيها، وإيجاد ذاته من خلال موهبة أو علم أو حرفة تمضي بحياته قدماً في ركب الحضارة والبناء والمعامرة، متحدّياً بهذا الاسم كل صعوبة قد تواجهه وكل معيق ما يمنحه الاستمرار في السير على الدرب والمنهج الذي اختاره له هذا الاسم الذي اكتشفه بأعماقه ..!!
- وعلى ذلك فليس ثمة غرابة أن نجد الطب النفسي الحديث يلتزم في تحليلاته للحالات التي يُعالجها ويتناول طبيعة تركيبتها السيكولوجية والفسيولوجية بالدراسة والبحث والتنقيب " الاسم " محوراً ومنطلقاً لذلك، إذ أن الفكرة في الأساس قديمة والتزامه هذا قد يكون متأخراً نوعاً ما، فالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وفي المفاوضات التي تجري بينه وبين قريش في "صلح الحديبية" وبعد فشل الوفد الأول والوفد الثاني من وفود قريش في الوصول إلى حل، يأتي الوفد الثالث بزعامة سهيل بن عمر" وبمجرد رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام له قادماً حتى يقول لأصحابه:" سهل الله أمركم" ، وينتهى مسير النبي عليه الصلاة والسلام إلى بين جبلين فيسأل عن اسمهما فيقال له" مخزٍ وفاضح" ، فيعدل عن المشي بينهما .
- وأُتي النبي عليه الصلاة والسلام بغلام فقال : " ما سميتم هذا ؟" قالوا : سميناه السائب" ! فقال عليه الصلاة والسلام :" لا تسموه السائب ولكن عبد الله " قال فغلبوا على أسمه – أي على أسم السائب – فلم يمت حتى ذهب عقلهُ، رواه الترمذي .
- وقال عوانة بن الحكم : لما دُعي عبد الله بن الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع فقبض عبد الله يده حتى قام أخوه مصعب فبايعه، فقال الناس : أبى أن يبايع ابن مطيع وبايع مصعباً ، ليجدنّ في أمرهِ صعوبة فكان كما قالوا ..!!
- والإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام غير بمجيئهِ مفاهيم وأسماء كثيرة بدعوى المعاني الفاسدة والصفات الذميمة والقبيحة التي تحملها ، كما يذكر ذلك أحمد بن فارس في كتابه " الصاحبي في اللغة " ، ومن ذلك أنه غير اسم "شهاب" إلى " هشام " ، وسمى " حرباً " سلماً" ، وسمى " المضطجع" "المنبعث" ، و"عاصية " بجميلة" ، وأصرم " ب" زرعة " ، وغير اسم أرض " عفرة " ب " خضرة" و" شعب الضلالة" ب" شعب الهداية " و"بنو الزنية" ب"بنو الرشدة" وغير اسم " العاص" و"عزير" و"غفلة " و"شيطان" و"الحكم" و"غراب" ! ..وغير ذلك كثير ..
سُلطة السياق
وثمة حكاية أخرى مؤداها أن ثمة رجل حُكم عليه بالإعدام وكان هارباً من وجه العدالة وطريداً للشرطة وفيما كان يبحث عن مكانٍ للاختباء فيه وجد قطاراً فاستقله ومن بين مقطوراته لم يجد غير الثلاجة مكاناً للاختباء فيه ، وهناك ظل يردد على نفسه عبارة واحدة هي " أنا سأموت ...أنا سأتجمد من البرد " " أنا سأموت ...أنا سأتجمد من البرد " وحتى جاء الصباح ليجدوا الرجل ميتاً، وحين يقوم فريق الطب الجنائي بتشريح الجثة يجد أن جميع أعصاب الرجل قد تجمدت وأن سبب وفاته هو شدة البرد ...!!
إن الحاصل هنا يجسد ويرتبط مطلقاً بسلطة السياق كما في قصة إبراهيم بن خفاجة ، وهي عينها سلطة الاسم ، بيد أن سلطة السياق وما تعنيه تندرج ضمن " البرمجة اللغوية العصبية " الخاصة بالإنسان وسلوكياته، والفكرة قديمة قِدم فكرة الاسم وما لها من سلطة، بيد أن العرب قديماً عرفوها معنىً وجهلوها أسماً ، شأنهم في ذلك شأن علوم كثيرة، وقد عرفت قديماً ب" الكذب على النفس" ومما يؤكد ذلك قول لبيد بن أي ربيعة في معلقته :
ومثل ذلك قول نافع بن لقيط :
وجاء في الأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:" إذا حّدثت النفس خالياً فاكذبها " أي إذا اختليت بنفسك فاكذب عليها حتى لا تثبط من عزيمتها ، فإذا حدثت نفسك بإنك بلغت قمة النجاح فهذا مؤذنٌ بالسقوط لأن ليس بعد القمة سوى الهاوية ، وإذا كنت فاشلاً وحدثت نفسك بإنك إنسانٌ ناجح فإنك ناجح وستنجح فقط وببساطة لأن "حياة الناجحين مسلسل من الفشل " وأيضاً لأن قولك هذا يتحول إلى سلوكيات وأفعال على الواقع بمعنى أنه يهندس حياتك ويُصيغُ عالمك ويبرمج ذاتك ويمنحك الأمل والنجاح، وقد أُطلِقَ على هذا في علم المنطق ب" الخداع الذاتي"، وفي الفلسفة كما سماه الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" ب" خداع النفس" "self deception" و"الإيحاء الذاتي " في علم النفس ، وثمة مؤلَفْ غربي صدر حديثاً بعنوان " the secret" "السر" وهو يعبر ويتناول قضية السياق وسلطته في خضم الحديث عن سر العظمة وأسرار العظماء في التاريخ وما كان وراء عظمتهم، هذا السر كما يصفه الكتاب كان مجرد أفكار، والأفكار كالمغناطيس ، تجذب الخير وتجذب الشر، تجذب السعادة وتجذب الشقاء، تجذب الفرح والسرور وتجذب الحزن، تجذب العظمة وتجذب الخيبة، وعليه فإن تفكير الإنسان في الخير يحُدث الخير وبالمثل تفكيره في الشر يجذب الشر، ولبوذا قولٌ يختزل فيه كل هذا وهو :" حياتك من صنع أفكارك"، وكذلك :" نحن ما نفكر فيه، وكل ما فينا ينبع من أفكارنا، وبأفكارنا نصنع عالمنا "، فإذا رُمت وفكرت في شيء فكن كما قال الشاعر : " إذا ما كنت في شرفٍ مرومٍ/ فلا تقنع بما دون النجومِ"
ومن قبيل ضرب الأمثلة على ما نحن بصدده، ومن خلال ما لمسته بنفسي ، ما قد تُفكر فيه المرأة أحياناً وعندما يتعثر حظها أو يتأخر في الاقتران وإيجاد رجلٍ يناسبها، ما يُلزمها بتعبيرٍ نفساني بالتعويض " compensation" ، أي التعويض ببدائل أخرى تشبع من خلالها " الأنيموس " التي تسكنها وهي الحس والجانب الذكوري الموجود داخل كل أنثى ويقابله " الأنيما" لدى الرجل، ويتم ذلك من خلال الدراسة أو العمل، وما إلى ذلك، وبالبدائل تستمر الحياة .
في حين أنها لو فكرت بإيجابية أو على الأقل كانت مؤمنة بما تفكر فيه وتفعله وتنادي به وتذود عنه وتطالب به من حرية المرأة ومساواتها بالرجل، فإيمانها هذا وصدقها فإن ما سيكون في الواقع نتيجة طبيعية لما تفكر فيه، أي أنها ستجد الرجل المتحضر والعصري ، الذي يحترم المرأة ويصونها ويقدّس حقوقها، رجل يكون تحقق وجوده نتيجة طبيعية للإيمان بتلك الأفكار ومرهونٌ بمصداقيتها في ما تقوم به وتمثله برأيها أمام الآخرين... وعندما يصبح الأمر بهذه الصورة فإن وجود هذا النموذج من الرجل المتحضر سيكون نتيجة طبيعية لتلك الأفكار التي تجذبه وتوجده باعتبارها أفكاراً مغناطيسية ، وهذه برمجة لغوية عصبية ، تعبر عن السلطة المطلقة للسياق الفكري وتجسد سلطة الفكرة في الذهن وفاعليتها على الواقع ، وقد قال الفنان العالمي " بيكاسو" :" أنا لا أبحث أنا أجد " ، أي أنه يكفي الإنسان ليجد ما يريده عوضاً عن البحث عنه التفكير فيه ، وكما أسلفنا فإن الأفكار كالمغناطيس التي تجذب ما نفكر فيه وتحققه على الواقع ..وهذا التفكير وهذا الاعتقاد المطلق والصدق فيها يشبه في تفاصيله مسألة العقيدة، في عالم القناعات ، وهي عقيدة بمعنى أدق لأنك إن لم تكن مؤمناً بما تفكر فيه فإن ذلك يُبطل تحققه على الواقع ، ولأجل ذلك ليس ثمة غرابة أن نجد في مسألة العلاج والمرض مثلاً ، والمشاعر والأحاسيس كالخوف والأمن والشجاعة والجبن والقلق والطمأنينة ، وما إليه من الضديات من المشاعر ، يقول بوذا تعبيراً عن هذا :" إن الإنسان لا يصل إلى العقل الخالص والحقيقة الخالصة إلا عندما يُدرك أن كل ما في هذه الحياة مجرد وهم ."!! نعم وبالفعل الحياة وهمٌ كبير ، ولندرك ذلك نذكر قول المتنبي :
وأيضاً قول الفيلسوف العبد " إيبكتيتوس" :" ليست الأشياء في ذاتها خيراً أو شراً ، وإنما يخيف الإنسان منها هو أفكارهُ وتصوراتهُ عنها " وثمة تجربة طبية أجريت ، وتمثل فتحاً كبيراً في هذا المجال بجامعة هارفارد الأمريكية، للطبيب "هنري بيشر" على مجموعة من طلبة الطب، عددهم مائة طالب ، حيث أعطى 50 منهم كبسولات حمراء وهي عبارة عن منشط هائل " باربيتورات" وأعطى النصف الآخر منهم كبسولات زرقاء وهي عبارة عن مهدئ هائل " إمفيتامين" ثم قام بتغيير محتوى الكبسولات فصار محتوى الكبسولات الحمراء هو المهدئ والكبسولات الزرقاء صار محتواها المنشط ، وكانت النتيجة مذهلة حقاً فبعد أن تناولها الطلاب أدت نفس الاعتقاد المسبق في أذهانهم عنها وليس ما احتوته الكبسولات بعد تغيير محتواها ، بمعنى أنهم لم يُعطوا دواءً غُفلاً ليس له تأثير، بيد أن السلطة للقناعات والاعتقاد المسبق لديهم كان أقوى من المفعول الكيميائي للعقار نفسه ..!!؟
وفي المجتمعات النامية ومما نلمسه فيها كمثال آخر تصوراتها عن الطب وعن الخدمة الطبية التي تُقدم لهم في بلدانهم هذه من حيث أنها رديئة ، وأن المريض بسفرهِ إلى البلدان المتقدمة سيجد العناية الأفضل ، والعلاج الفعال والخدمة الراقية والمتطورة، وهناك سيتحقق الشفاء..!! وبهذه القناعة تُبدد الأموال ويتكبد الإنسان المشقة والعناء في سبيل تسويغ سفرهِ وهناك في واقع الأمر ، أي في البلدان المتحضرة، لا يبلغ ولا يوازي حجم ما يُقدم لهم من رعاية وعناية وخدمة طبية مقارنةً بما قُدِّم لهم في بلدانهم ولا حتى ما نسبته 50% بيد أن قناعاتهم واعتقادهم وعقدة الأجنبي التي تسكنهم والأفكار التي تدور بخلدهم وتتداولها الألسن بسبب نظرية علم الاجتماع " البرهان الاجتماعي" التي تسيطر على النظرة العامة للناس حول أي شيء وعن كل شيء وما يعنيه جودةً أو رداءةً وإيجاباً وسلباً واستساغةً ورفضاً ، كما تتحكم بكل شيء وبأي شيء ونظرة الناس إليه وبشكل مذهل ..!!
- لا ننسى كذلك الفكرة الجوهرية لفيلم "الماتريكس" " المصفوفة" والتي نادت بأنه قد تجد من يُرشدك إلى الطريق ، بيد أن المحال أن يأتي معك، في حال لم تكن مؤمناً بأنك تريد الذهاب إلى حيث الحقيقة، وتلك الحقيقة تقتضي أن تُسبل جفنيك على ما أنت مؤمنٌ به وآمنت ورغبت في أن تكونه حاضراً ومستقبلاً ، ثم لتتجاوز بإيمانك هذا كل ما قد يعترضك من معوقات وصعاب ، إلا انك ستصل في النهاية ، وبنفسك، وبأفكارك ، وبما رغبت وآمنت في أنك تريد أن تكونه ، وليس بمعية احد...!! ومثلما عبّر الشاعر روبرت جريفز :
ليملأوا القاعة الهائلة
لا يوجد غير شخصٍ واحدٍ يعرف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.