مع تقدم جماعة الحوثي في عدد من المحافظات الشمالية يتضاعف شعور السُنة بالقلق وتقل ثقتهم بالنظام الحاكم، وأحيانا يتحدثون عن تواطؤ رسمي مع الجماعة بإيعاز من الخارج، الإقليمي والدولي، لحسابات تتعلق بقضية الحرب على الإرهاب. ويؤكد مثل هذه المخاوف استدعاء السُنة في اليمن لنموذج العراقوسوريا، وهم يعتقدون أن الحرب الطائفية كلٌ لا يتجزأ، وكذا السياسة الخارجية تجاهها، رغم أن ما آل إليه الوضع في العراق لا يشجع على استمرار مثل هذه السياسة.
لكن الوقت ليس في صالح السنة، فتوسع الحوثي سريع وكاسح، كما إن التربية التي نشأت عليها قاعدتهم الجماهيرية لا تؤهلهم لترتيب الصف والعمل على الحد من هذا التنامي السريع لقوة من تعتبرهم خصوما طائفيين.
حيث ألِفَ السنة، وأغلبهم سلفيون، العيش في ظل نظام يدينون له بالولاء والطاعة المطلقة ويوفر لهم الأمن، وهذا ما لم يعد يحدث هنا، وما بات السلفيون مقتنعين به، خصوصا بعد ما حدث لهم في منطقة دماج بمحافظة صعدة.
كما إن اعتبار جماعة الحوثي، إن هي أحكمت قبضتها على البلد، نظاما شرعيا بالمغالبة التي تُعتبر إحدى الآليات الشريعة للوصول إلى الحكم في المنهج السلفي، يتناقض مع أدبيات أخرى للسلفيين فيما يخص خصومهم الشيعة.
على أن منهم من يرى أن جماعة الحوثي لم تخرج عن الإطار الزيدي عقديا، وإن خرجت عنه سياسيا، لحسابات غير محلية، وسيجدون في هذا ما يبرر لهم التأقلم مع الواقع الجديد، وربما ما يبرر لهم التحالف مع الجماعة الحاكمة في الحرب على محسوبين على السنة يناهضون هذا الوضع.
أما الإخوان المسلمون، وهم سُنة بطبيعة الحال، فسيسلمون، كعادتهم بالأمر الواقع، إن تمكنت جماعة الحوثي من فرضه، وسيتحالفون مع الحكام الجدد في الحرب على الإرهاب، كما حدث في العراق، مقابل أن يحول الخارج دون بطش هؤلاء الحكام بهم.
لكن بقاء هذا التحالف، بين الإخوان وبعض السنة الذين قرروا التعاطي مع الوضع الجديد، وبين الجماعة الحاكمة، مرهون بطبيعة سلوك هذه الجماعة في إدارة البلد، أو بتصرفها كدولة لا كجماعة.
وسيضغط الخارج كي تسير الأمور في هذا الاتجاه، حتى لا يتكرر ما حدث في العراق مؤخرا، حيث أدى السلوك الطائفي لنظام المالكي إلى وقوف العشائر السنية إلى جانب من وقفوا ضدهم بالأمس، كما أدت سياسة الغرب في سوريا إلى رفض كثير من أبناء الشعب السوري التصنيف الأمريكي لجبهة النصرة كجماعة إرهابية، رغم مبايعة الجبهة لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري.
كما إن الخارج سيحرص على أن يكون للسُنة (إخوان وسلفيون) تمثيل، ولو شكلي، في الحكومة، لإزالة صفة الطائفية عنها وتهمة التواطؤ عنه.
وربما تستفيد جماعة الحوثي مما حدث في العراق مؤخرا وتنتهج سياسة مختلفة، رغم أن الأمور الشعائرية، التي قد تُعطى جهة بعينها امتيازات خاصة في ممارستها، ستكون مستفزة كثيرا وستصب في صالح الرافضين للوضع الجديد، خصوصا وأن الصراع، قبل فرض هذه المعادلة، يرجع في معظمه إلى أسباب عقدية وفكرية.
القاعدة كملاذ
ولن يبالي السنة الرافضون للوضع الجديد بموقف الخارج من تنظيم القاعدة، لأن موقفه من خصومهم الطائفيين سيجعله طرفا، من وجهة نظرهم، وهذا يعني أنهم باتوا طرفا في كل الأحوال، وفي هذه الحالة قد تكون خسائر رفض الواقع الجديد أقل من خسائر الرضا به.
ومن المؤكد أن وضعا كهذا سيخدم تنظيم القاعدة والتشكيلات الجهادية الأخرى كثيرا، فإلى جانب أن التنظيم يجيد اللعب على ورقة المخاوف الطائفية، ويجد على الأرض ما يُسند موقفه، هو أيضا الكيان السني العسكري الوحيد والمنظم، وصاحب التجربة الطويلة، ولا خيار أمام قطاع واسع من السنة غير الانضمام إليه أو التحالف معه.
وهو ما حدث في العراقوسوريا، حيث طغى الانضمام إلى الجماعات الجهادية على الانضمام إلى التشكيلات المقاتلة الأخرى، على اعتبار أنها حرب يبلي فيها العقائديون، من الطرفين، بلاء حسنا.
أما السُنة الذين قد يتأقلمون مع الوضع الجديد، هربا من تبعات رفضه أو مقاومته، فقد يجدون أنفسهم أمام تبعات أشد وطأة، لأنهم سيكونون هدفا لعمليات التنظيم، ككل من ينتمي إلى الواقع الجديد، وقد يقعون بين مطرقة سياسة تمييزية وسندان عمليات عسكرية، وسينتهي بهم المطاف إلى رفض واقع دفعتهم الضرورة إلى أن يكونوا جزءاً منه، وقد استهدف الجزء الأكبر من العمليات في العراق سُنة جُندوا كصحوات أو شاركوا في الحكومة العراقية.
وحين يصل الفرز الطائفي إلى هذا المستوى ستكون الحرب الطائفية مفتوحة وستتجاوز الفاعلين المباشرين لتشمل كل صاحب انتماء بل حتى الذين لم يحددوا موقفا من هذا الطرف أو ذاك.
قبل فوات الأوان
وصحيح أن البيئة الطائفية في اليمن لم تتبلور بعد لتغذي صراعا يشبه الصراع الطائفي في العراقوسوريا، إلا أنها في طريقها لتصبح كذلك، كما يؤكد ذلك هذا التسارع المخيف للأحداث في عدد من المحافظاتاليمنية، وما استدعاه من استقطاب طائفي على نطاق واسع، وما يحظى به هذا الاستقطاب من تجاوب شعبي.
وبرغم أن هذا الصراع قد يستهوي الطرفين، على اعتبار أن كل طرف يراه المحطة الأخيرة للوصول إلى الهدف، إلا أن استمراره هو ما سيكون، وإن رجحت الكفة لصالح طرف في مرحلة فسترجح لصالح الطرف الآخر في مرحلة أخرى، ولليمنيين في أحداث العراقوسوريا عبرة.
وجدير بالذكر خطورة الدور الذي يلعبه آخرون من خارج طرفي الصراع، لغرض النكاية بطرف أو لأغراض أخرى، على أن هذا الدور، في حقيقة الأمر، لا يخدم طرفا ولا يضر طرفا بل يضر الجميع ويخدم استمرار مضي البلد في هذا الاتجاه الخطير.
والمخيف أكثر هو أن هذا الصراع يقتات على ما تبقى للدولة من قوة وهيبة، ويجعل خيار وقوف الناس إلى جانب الدولة أبعد الخيارات، على اعتبار أنها في طريقها لأن تصبح الطرف الأضعف في هذه المعادلة، والناس يبحثون عمن يشعرون بالأمن معه، ومن المؤسف القول إن أكثرهم بات يشعر بالأمن مع الجماعات وليس مع الدولة.
وبرغم كل ذلك لازال لدى المسئولين عن هذا البلد ما يقدمونه، لتفادي وصوله إلى ما وصلت إليه بلدان أخرى، لكن لا يبدو أنهم متحمسون لذلك، إما لأنهم غير مدركين للمخاطر التي تنتظر البلد في ظل استمرار هذه السياسة، وإما لأنهم جزء من لعبة تستهدفه.