من الواضح للجميع بأن اليمن الموحد يعيش على إيقاعات أزمة بنيوية ساخنة بل و ملتهبة ليس في شطره الجنوبي أو فيما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بل في عموم البلاد التي أرهقتها الصراعات القبلية، وفساد السلطة، وسيادة الظواهر السلبية،والإستنزاف الإقتصادي الفظيع الذي تسببه سياسة عسكرة الدولة و التي تتشابه للأسف في العديد من جوانبها مع الوضعية العراقية أيام حكم صدام حسين وخصوصا في سياسة تقريب الأهل والأحباب وإقصاء الشطر الأكبر من الشعب عن سدة المسؤولية وعن التنعم بالسلطة وإمتيازاتها. أخطاء حكومة الوحدة اليمنية أخطاء فادحة وخطيرة و متراكمة فجرت حربا دموية شرسة في صيف عام 1994 الملتهب بعد النزاع الشهير بين وحدات الجيش اليمني الشمالية والجنوبية، وهي حرب كانت قاسية و مؤلمة وسددت طعنة سوداء في قلب الوحدة بعد أربعة أعوام فقط من قيامها بشكل مستعجل وغير مدروس وعلى خلفية التسارع الدولي وقتها في إنهاء الحرب الباردة و تصفية المعسكر الإشتراكي و إنهيار المنظومة الشيوعية والتي كان اليمن الجنوبي أحد ضحاياها المباشرين. والنظام الجنوبي الذي كان يحكمه الحزب الإشتراكي المنبثق من الجبهة القومية كان قد دخل في صراعات دموية شرسة كان آخرها حرب أومذبحة عدن بين الرفاق في 13 يناير عام 1986 التي أنهت قيادات تاريخية للحزب من أمثال عبد الفتاح إسماعيل أو علي عنتر و آخرين من أعضاء المكتب السياسي للحزب، والتي أدت لشرخ كبير في مستقبل الحكم والقيادة، وأبرزت للواجهة الرئيس السابق علي سالم البيض الذي سعى فيما بعد وبإرادته للتوقيع مع حكومة الشمال على إنهاء الشخصية المستقلة لليمن الجنوبي والدخول في عقد الوحدة الذي يشكل من الناحية الستراتيجية الصرفة أملا جامعا وموحدا لجميع اليمنيين بصرف النظر عن توجهاتهم الفكرية و السياسية. فالوحدة هدف مقدس سعت له جماهير اليمن بدمائها وتضحياتها، ولكن ما أصعب من تحقيق الوحدة هو الحفاظ عليها و تنميتها وجعلها بمثابة حالة يومية معاشة، وليست شعورا طاغيا بهيمنة القوي على الضعيف أو بتحولها لغطاء واسع و فضفاض لفساد السلطة، وأجهزة الحكم أومجرد أغنية وطنية أو نشيد حماسي. الوحدة لا يدافع عنها في النهاية إلا الشعب الذي يقتطف ثمارها وعوائدها المباشرة وهي بالتالي لا يمكن أن تكون حالة فوقية يسبح بحمدها أهل الحكم والصولجان و يكتوي بنيران فشلها جموع الشعب، من الواضح أن أزمة الجنوب ليست هي الأزمة الوحيدة في شريط أوحزام الأزمات اليمنية المعاصرة،كما أنها ليست الأسخن أيضا على صعيد المواجهات اليمنية، بل أن هنالك أحزمة نارية يمنية ما زالت تتفاعل وتتطور وبشكل عجزت معه السلطة الحاكمة وحتى الوساطات العربية والدولية عن حلها أو تفكيك قنابلها الموقوتة. فالأزمة الدموية مع الحوثيين في أقصى الشطر الشمالي أي في منطقة صعدة لم تزل تفرز مآسي يومية دموية عبر الإغراق في سياسة الإستعمال المفرط للقوة ومعاناة الشعب المسكين من نتائجها، كما أن تغلغل الجماعات الأصولية في مفاصل حساسة من الدولة يطرح أكثر من مشكلة، والسياسات العائلية والقبلية لمؤسسة الحكم تظل عقدة العقد في دولة يمنية لم تخطو بعد خطواتها الواثقة لولوج مرحلة الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها التي تحميها و تصونها، فالإستعراض المبالغ به للقوات المسلحة لن يوفر أمنا حقيقيا أو دعامة قوية راسخة للوحدة. لقد كان المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر يمتلك أوائل الستينيات أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط زائدا الشعبية القومية الكبيرة والإعلام القومي الداعم له و لنظامه، ومع ذلك إنهارت الوحدة الإندماجية مع سوريا ( الإقليم الشمالي ) بمجرد مغامرة إنقلاب عسكري قامت بها قوات البادية السورية لتنهي حلم الوحدة القومي بساعات قليلة ولم يستطع جيش الجمهورية العربية المتحدة من منع الإنفصال ليس لعدم المقدرة أو الجاهزية أو لنقص الإيمان الوحدوي و إنما لإيمان عبد الناصر بأن تثبيت الوحدة عن طريق سفك الدماء إنما هو المسمار الأكبر في نعشها. فمن يدافع عن الوحدة هي الجماهير، وعندما تسكت الجماهير و ترضى بالإنفصال فإن في ألأمر أكبر من مشكلة، وإن في المسيرة أخطاء فادحة وصلت بل تجاوزت حدود الخطايا. وكذلك هو حال الوحدة اليمنية رغم الإختلاف الموضوعي مع تجربة الجمهورية العربية المتحدة، فالسيد علي سالم البيض الرئيس السابق لليمن الجنوبي والنائب الأسبق لدولة الوحدة وهو يعلن قبل أيام الإنفصال من النمسا، لا يملك حقيقة توجيه الأمور ولا إقرار الوقائع لكونه كان أحد أطراف ذلك العقد الوحدوي، كما أنه كان أحد قادة حرب 1994 والتي خسرها بالمطلق لأسباب وعوامل إقليمية أكبر من العوامل الداخلية. والتاريخ لن يعود للخلف أبدا، فما يحتاجه اليمن حقيقة هو إصلاح مؤسسة الحكم من الداخل ومحاربة الفساد ومنع الدكتاتورية العائلية والعشائرية، فاليمن السعيد لجميع اليمنيين ليس لفئة أوعشيرة أومذهب أوشخص، وعندما يصل اليمنيون لحالة توافق وطني، وبناء برنامج إصلاح حقيقي شامل بضمانات دولية وإقليمية فإن كل الملفات العالقة ستحل تلقائيا. من حق الشعب اليمني في الجنوب التذمر من سياسات الإقصاء والتهميش و المناطقية وهيمنة عشيرة الرئيس فتلك أمور ما كان ينبغي لها أن تكون لو كانت مؤسسة السلطة والحكم تمتلك الشفافية وتتمسك بالأدوات الديمقراطية، فالديكتاتورية و العشائرية وحتى القات، شر مطلق وفايروس خبيث يدمر المناعة الوطنية للشعوب، ولكم في التجربة العراقية المرة حياة يا أولي الألباب..!