كثيرون هم المسكونون برغبة السفر وحب العيش في بلاد الآخرين، يُوهمون أنفسهم برغد الحياة ونعيمها، ويبنون من وهم أحلامهم قصوراً من دخانٍ في فضاءات الغيب!!. تراهم يتسابقون للحصول على فرصة للخروج من أوطانهم والذهاب إلى أبعد مكانٍ في هذا العالم، يلهثون خلف سراب المال والثراء، متمثلين بمن سبقوهم من أقاربهم وأصدقائهم ومعاريفهم ممن ساروا على هذا الطريق منذ سنوات. غير مدركين المتغيرات التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، وما نتج عنها، وانعكاساتها على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول العالم. وهم مستعدون لبيع كل غالٍ ورخيص، والتخلي عن كل شيء يربطهم بوطنهم، كل ذلك في سبيل الحصول على تذكرة سفر تحملهم نحو المجهول!!. وحين يتحقق لهم ذلك ويصلون إلى المكان الذي اختاروه مقراً لغربتهم سرعان ما يصدمهم الواقع وتقهرهم ظروف الحياة؛ فتتبخر أحلامهم دخاناً وتحمله الرياح، ولا يبقى في صدورهم غير ألم الغربة وحسرة البعد عن الوطن وحرقة الشوق والحنين إلى الأهل والديار. ولحظة بعد لحظة تتسرب أيام عمرهم وتسرقهم السنوات وهم منسيون في قبور غربتهم يكابدون أحزانهم ويصارعون من أجل البقاء في غابة الحياة التي اختاروها. يقبلون كل عمل يُعرض عليهم مهما كان حقيراً ومهما كان أجره زهيداً؛ لا يتذمّرون أبداً، فهم في ساحة حرب مستعرة من أجل الحصول على لقمة العيش في مجتمع لا مكان فيه للشفقة والتراحم، فمن لا يعمل لا يأكل!!. وحتى أولئك القليلين الذين خدمتهم الظروف وأصبحوا يملكون محلات تجارية ويتمتعون بحصانة الجنسية؛ لا مجال عندهم للراحة، وفوق هذا وذاك فإن خطر السطو على محلاتهم والاعتداء عليهم أمر وارد ومتوقع، والأعمار بيد الله سبحانه. قصص ومآسٍ تشيب لهولها الولدان؛ أبطالها - أو بالأصح ضحاياها - مغتربون جاءوا يبحثون عن المغنم؛ فلم يجنوا غير المغرم، تقطّعت بهم الأسباب؛ فلا هم حصلوا على حلاوة الغربة، ولا هم صبروا على الحياة في الوطن. وأي مُر أعظم من الحياة البائسة التي يعيشها البعض منهم والتي دفعتهم إلى التخلّي عن قيمهم وأخلاقياتهم وحتى عن دينهم أيضاً، وارتضوا العيش على بضع دولارات تتصدق بها بناتهم عليهم رغم علمهم من أين يحصلن على المال والثمن الذي يدفعنه لقاء ذلك بغض النظر عن جنسية الأم التي أنجبتهن!!. كل هذا من أجل الصيت والقول إن فلاناً مغترب في أمريكا مثلاً، فالغربة إن لم تحقق لصاحبها العيش بكرامة وتعود عليه وعلى أبنائه ووطنه بالنفع لا فائدة منها. ولحياة راعي غنم في جبال الوطن أفضل ألف مرة من حياة ذُل وهوان ولو كانت داخل قصر بنيت جدرانه من الدولارات. نعم فلو عرفت أيها المسكون برغبة السفر وحب الغربة حقيقة حياة المغتربين ومعاناتهم وذلّهم وهوانهم على الناس فلن تغرّك تلك المظاهر الزائفة التي يحاول البعض الظهور بها حين يعودون إلى الوطن. ولما تمنيت أن تكون مثلهم حين تراهم يسرفون في صرفياتهم ويتباهون أمام البسطاء، ولأيقنت حقاً بصدق قول الشاعر: بلدي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن بخلوا عليّ كرام فلا عزّة لإنسان في غير وطنه، ولا كرامة يرجوها بعيداً عن أهله..