استمعت وقرأت الكثير عما قيل عن أسباب غضب الشارع العربي، لكن القليل من هذا الذي قيل هو الذي لامس تلك الأسباب في العمق، ومن الطبيعي أن تتكاثر القراءات وتتعدد تجاه ما حدث في هذا الشارع الكبير الذي يمتد من المحيط إلى الخليج، ولكن لا ينبغي لتلك القراءات أن تخطئ في تحديد أهم أسباب الغضب العام والعارم وأن لا تتوقف عند سطح الرسالة الشعبية، فالجوع ليس الدافع الأساسي ولا البؤس مهما اشتدت قسوته، وإنما كان هناك ما هو أهم وأكبر، وأعني به انحراف السياسات العربية وابتعادها منذ سنوات عن المنحى الوطني والقومي وتحولها في بعض الأقطار إلى سياسات تستمد نهجها ومفهوماتها من السياسة الأمريكية التي تضع في اعتبارها الأول المصلحة الصهيونية، وما يثيره ذلك من تراكم الغليان في النفوس ولما تمليه من رضوخ وامتهان يتنافى مع الكرامة العربية . لقد عرف الإنسان العربي ألواناً من الحرمان، ذاق الجوع وعانى الفقر لسنوات طوال، لكن ذلك لم يكن ليدفع به إلى الثورة والخروج إلى الشوارع إلا بعد أن مست السياسات المغلوطة كرامته، وصار كل يوم يشهد تنازلات متلاحقة للعدو في الوقت الذي لا يكف فيه هذا العدو عن قتل أهلنا وقهرهم، ولا يكف كذلك عن هدم المنازل وترويع المواطنين وقضم ما تبقى من الأرض الفلسطينية بيد أبنائها قطعة قطعة، في هذا المناخ استولى على الإنسان العربي شعور بالإحباط تحول بعد ذلك إلى احتقان ثم إلى الغضب العارم الذي نراه ونشهده، والذي لن يهدئ منه أو يخفف من ثورته إلا التصحيح الشامل للسياسات العربية والعودة بها إلى ما كانت عليه في الخمسينات والستينات، وذلك أضعف الإيمان المطلوب من الأنظمة بعد أن طفح الكيل ووصل الغيظ والغضب مداهما الأقصى . ولعل من يشاهد تحرك الشباب الغاضب في هذه العاصمة العربية أو تلك، وما يواجهون به من يتحدون مسيراتهم يدرك أن أمثولة انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين هي امثولتهم، والحجارة وسيلتهم للتعبير عن هذا الاحتقان الطويل، وفي هذا الاستخدام من الدلالات ما هو جدير بالتعمق في قراءة الأسباب الكامنة وراء هذا الغضب الشعبي المتزايد، وهو ما يدعو كذلك إلى إعادة النظر في عقم السياسات العربية وانحرافها وما ترتب عليها من إهانة لوعي الإنسان العربي ولكرامته أكثر من تعرضه الدائم للجوع وما رافق ذلك من انصراف الحكام إلى اللعبة السياسية بدلاً عن الاهتمام بالتنمية وتطوير مستويات المعيشة والحد من ارتفاع الأسعار ومواجهة سطوة الغلاء المتلاحق في السلع الغذائية الضرورية، في حدود إمكانات كل قطر عربي . إن هناك قراءات كثيرة غربية وشرقية، وقراءات عربية، لما يحدث في الشارع العربي، ولكنها كلها تقريباً لا تزال حتى الآن تمر على القضايا السياسية مرور الكرام، وتكاد كلها تتمحور حول الغضب من تدني مستوى المعيشة وإلى أن مطالب هذا الشارع تتركز في تغيير الأشخاص واستبدال شخص الحاكم بشخص آخر، وهي قراءة مغلوطة جداً، فالشارع الذي لم يتكلم كثيراً والذي اكتفى بالتلويح بقبضات الأيدي يريد تغييراً في العمق ويرغب في أن لا تبقى السياسة العربية رهينة البيت الأبيض الذي لا هم له سوى التمكين للكيان الصهيوني في أن يكون سيد المنطقة وحارس المصالح الغربية عامة والأمريكية خاصة، وأن مواقف هذا البيت لن تتغير ولن تكون في صالح العرب ما دام هناك من ينفذون بإخلاص كل ما يطلب إليهم القيام به، ولو كان يتعارض مع كرامة الأمة ويتصادم مع أحلامها في الاستقلال والسيادة الكاملة .