أتيحت لي الفرصة في منتدى ثقافي أن أتحدث فتحي أحمد الشرماني إلى الحاضرين تعقيباً على محاضرة ألقيت في التنمية البشرية، ولأن هذه المحاضرة هي أول عهدي بهذا العلم الجديد فقد ذهبت أثير كثيراً من التساؤلات إلى الحد الذي ناقشت فيه ما يعد عند مدربي التنمية البشرية من المسلمات أو اليديهيات أو الحقائق الثابتة. في بداية الأمر مضيت في التأكيد على أن هذا العلم علم شريف وجليل, وهو إلى جانب ذلك فن أصيل وعصري, واسع الأفق لا يمكن احتواؤه في مربع صغير من المعلومات المكرورة .. فهو يستفيد من كل العلوم ويتبادل معها المعارف والخبرات والتجارب، وغايته من أسمى الغايات لأنه يتناول الإنسان ويهتم به وينشغل بكيفية إنهاضه. والذي زاد في إعجابي أن يمتزج هذا العلم بالفكر الإسلامي والتراث المعرفي في كثير من زواياه .. فينطلق منه نحو كل جديد .. وهنا تتحقق له المقبولية في الذهنية المتلقية ويتأكد إيمانها بخططه وبرامجه .. وهذا يذكرني بما كتبته قبل حوالي أربع سنوات تحت عنوان (صناعة النجاح في ضوء المرض) متناولاً فيه – كما يخيل إليّ – قضية التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية وفشل تسويقها في القنوات الفضائية لأن كثيراً من مدربيها الدارسين في الغرب لم يتقدموا حتى ذلك اليوم خطوةً في إقناع العقلية العربية بحقائق هذا العلم وصدقية نتائجه وصلاحيته لإعادة تفعيل الإيجابية في الشخصية العربية, ولكنهم يقدمونه بطريقة غريبة يصبح معها هذا العلم وكأنه ظاهرة مرضية, بل تبدو حركات بعض من يقدمونه وتصرفاتهم وكأنها لأناس مرضى!! وأنا أؤكد أن استقبال هذا العلم في بلد مثل اليمن لا يزال متواضعاً .. وهذا الكم المتواضع ممّن يقوم على إدارته أو تسويقه ضيق الرؤية أو نفعي آني ينظر إلى ما حوله فقط كما هو الأمر في الدورات التي تقيمها بعض الشركات وبعض المؤسسات وبعض الجهات الحكومية، ونحن لا نزال بانتظار المرحلة التي يصبح فيها فن التنمية البشرية رائداً لحركة الإنتاجية لدى مختلف الجموع الوطنية وضابطاً لإيقاع الحياة والتفكير الحياتي كما هو الشأن في كثير من البلدان الغربية. فهل حقاً تكون جميع القيادات الحكومية والموظفون والعاملون في مختلف المرافق بحاجة إلى مثل هذه الدورات النوعية ؟؟ وهل حان الوقت لأن نتجه نحو هذا العلم/ الفن لتجريبه في معالجة كثير من المشكلات الحياتية والخدمية والسياسية التي نعاني منها؟! نعم .. نحن بحاجة ماسة لأن تدخل مفاهيم هذا العلم/ الفن إلى قلوبنا وممارساتنا وأنشطتنا بجدّ, ثم ننتظر التغيير لأن الإصلاح يبدأ من الذوات, ونحن مطالبون كأفراد بإصلاح أنفسنا وتفعيل القدرات الكامنة في نفوسنا وتمثل حب الوطن واحترام الآخر في معاملاتنا وأعمالنا. قبل عدة أشهر كان لرئاسة الوزراء ووزارة الأوقاف أن وجدت في برنامج حديث للتنمية البشرية ضالتها التي بحثت عنها في حوارات العلماء والفقهاء وخطابات البلغاء والوعاظ لإصلاح فكر بعض الشباب المغرر بهم في فتنة التمرد الحويثية, ولكنها لم تجد ما تبحث عنه .. بل وجدته في ذلك البرنامج الذي تقدم به مجموعة من شباب ومدربي التنمية البشرية في محافظة تعز, وذلك بعد أن كشفت تقارير التقييم عن تحسن كبير في سلوك أولئك المغرر بهم وتفكيرهم .. وهذا شيء إيجابي وتجربة دافعة لأن نعيد تشكيل خطابنا الإقناعي وحواراتنا الديمقراطية وفق أسس جديدة ومتطورة. الفرد الغربي اليوم يصلح نفسه ويحسن في مستوى تفكيره ونشاطه في الحياة؛ لأنه مستمر في التعلم ، حتى القيادات وأصحاب الشهادات العليا وصناع القرار يخضعون لمثل هذه الدورات المتكررة لتحسين مستوى الإنتاجية وضمان تقدمها ومواكبتها لمستجدات الحياة. أما الإنسان العربي فهو يعتقد أن حصوله على شهادة الدبلوم أو البكالوريوس واستلامه للوظيفة هو نهاية المطلوب وغاية المقصود .. وكم هو مثير للسخرية أن يغضب موظف ما وأنت تعامل في جهة ما إذا ما زلّت لسانك وناديته (يا فلان) ولم تقل ( يا أستاذ فلان) أو (يا أستاذة فلانة) إن كان المنادى أنثى. التفكير الصحيح – يا إخواننا – هو الذي يعرفنا أننا نحن شعوب العالم الثالث لا نزال تلامذة لم نغادر بعد مرحلة التعلم وإتقان صناعة ما هو إيجابي وصحيح ومتطور من أجل الأوطان ومن أجل الإنسان.. نحن تلامذة وأساتذتنا هم الشعوب التي نضجت تجاربها ونجحت في إدارة نفسها .. فالأساتيذ ليس نحن .. و(الأستاذ) لقب كبير يختزل في دلالته صفات رجل التنوير المؤثر الذي يصنع خطط واستراتيجيات التحول في المجتمعات. أليس الآباء والأجداد أحسن منا وأكثر منا احتراماً لذواتهم وأصوَب في تقديرهم للأمور ووزن كلٍ منها يميزانه الحق ؟! فمع قيام الثورة الدستورية إلى وقت قريب كان الأساتذة في المفهوم اليمني هما اثنين لا ثالث لهما في اليمن: أحمد محمد نعمان ( الذي حمل هذا اللقب إلى الآن), ومحمد محمود الزبيري .. فهذان أستاذان لأنهما أرسيا فكراً إشراقياً أحدث أثراً في الحياة ونجح في صناعة التحول. إذن فالتنمية البشرية هي التي تستطيع أن تعرفنا في أي أرضٍ نقف وإلى أين نتّجه .. تعرّفنا من نحن وماذا نريد ؟ وهل نحن أساتذة أم تلاميذ ؟! أعود لأقول كان أسلوب المحاضر قد أعجبني .. وحبّب إلى نفسي علم التنمية البشرية .. لكن فضولي المعرفي وهكذا هو دائماً يدفعني إلى إثارة السؤال لاستواء الفهم ورسوخ المعلومة ، ولن يسمح المجال هنا لعرض ما أثرتُ من قضايا وما طرحت من إشكالات أراها ضرورية لضمان المستقبل الذي نريده للتنمية البشرية في البلاد العربية .. وسأتحاور معكم بها في أسبوع قادم.