بقدر ما آذنت جمعة الإنذار بتهاوي النظام أعادت له التي تليها بعض تماسكه، وبينما أمكن للرائي إدراك أن قناعة الرحيل المبكر عن سدة الحكم لازمت الرئيس علي عبدالله صالح مضطرا، إثر مذبحة جمعة الثامن عشر من الشهر الماضي، إلا أن ظهوره في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء في جمعة "التسامح" بتسمية الموالين له و"الرحيل" بتسمية مخالفيه، ثم ما بعدها، يشي بأن الاعتقاد لدى الرئيس صالح انتهى إلى أن من حقه، بل الواجب عليه، التمسك بالسلطة حتى العام 2013، فيما طُويَتْ صفحة مبادرات من قبله كانت منذ أيام قريبه تشير إلى إمكانية تخليه عن الكرسي العتيق بنهاية العام الجاري على الأبعد.. فما السر وراء هذا التحول الذي أعاد الرئيس صالح للتموضع في مربعه الأول؟! صحيح أن جمعة الإنذار والتداعيات التي خلفتها في هيئة تصدع أركان النظام، الذي يأتي انشقاق اللواء علي محسن الأحمر على رأسها، قد حشرت الرئيس صالح في دائرة مخاوف لاعب في رصيده بطاقة صفراء ويخشى أن يستوجب الطرد بأبسط خطأ يرتكبه، إلا أن الراقص على رؤوس الثعابين لم يظل طويلا أسير مخاوفه وإنما تجاهلها ومضى متكئا على إرثه الممتد عبر ثلاثة عقود من احتراف لعبة "كسر الحجر بأختها" في اتجاه الإفادة من الإنذار عبر هدير الشارع باستنساخ ما يشبهه أو يوازيه أو يقوم مقامه إلى حين، طلبا لكسب معركة البقاء على رأس السلطة. جاءت جمعة الخامس والعشرين من الشهر الماضي تتنازعها أسماء شتى، فهي لدى أحزاب اللقاء المشترك باسم "الزحف" حسب ناطقهم الرسمي الذي قال إن من شباب ثورة التغيير من أبلغه بهذا المسمى، ولدى شباب التغيير كانت "الرحيل".. أما الرئيس صالح وأنصاره ف "التسامح".. وفي التسمية وحدها تتجلى براعة اللاعب ال "صالح" الذي اتخذ من فكرة "الزحف إلى غرفة النوم" عنوانا أمكن بالاشتغال على انعكاساته السلبية، في الذهنية الأخلاقية عموما والقبلية على وجه الخصوص، تقديم صورة نمطية ثأرية وإلصاقها بما يصاحب، أو يقصده ويهدف إليه، ليس مسلك أحزاب المعارضة في المشترك فحسب، وإنما مسلك المطالبين برحيل النظام ككل. أخطاء مقصودة للوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن أن النظام يحسن استغلال هفوات خصومه، وإن بطريقة يكون هو الفاعل فيها ابتداء، حتى إذا أوصلهم إلى مستوى يجعلهم في موطن التهمة نكص على عقبيه وتراجع عن ما كان قد توافق وإياهم عليه. وفي هذا السياق فإن ما قيل خلال الأسابيع الماضية عن مبادرات يمكن للتحاور في ضوئها التوصل إلى سبيل انتقال آمن وسلس للسلطة لم تكن أكثر من شرك أظهر قادة المشترك وهم في حبائله كما لو كانوا بصدد عقد صفقة مع الرئيس صالح من وراء شباب ثورة التغيير. ليس صحيحا النظر باعتباطية إلى حرص النظام على اختزال جوهر الأزمة في صراع طرفين يمثل أحدهما فيما اللقاء المشترك الطرف الآخر. الأمر يبدو متعمدا ويبتغي إظهار قيادات هذه الأحزاب منزوعة الثقة في الأوساط الشبابية على امتداد ساحات الحرية والتغيير، إذ أن استدراجهم إلى دائرة الحوار بمغريات التسليم لهم والموافقة على ما كانوا طرحوه من قبل من اقتراحات وفوقها مثلها تكشف عن مسعى لتكريس صورة نمطية عنهم تظهرهم على كثير من التناقض، فهم في الوقت الذي ما انفكوا فيه يرددون أن القرار للشارع، إلا أن غرفا مغلقة لم تزل تجمعهم بالرئيس صالح وهذا هو الأهم، حتى وإن كانت مساعيهم لا تخرج في العنوان العريض لأهدافها عن شعار رحيل النظام.
وها هي النتيجة ماثلة للعيان، فما الذي أسفر عنه لقاء قيادات في المشترك واللواء علي محسن الأحمر بالرئيس صالح في حضور السفير الأمريكي وآخرين الأسبوع الماضي إلا تأكيد حقيقة أن النخب السياسية وإن استحضرت مطالب ثورة الشباب إلا أنها تبدو كما لو كانت مصرة على تمثيلهم بما وفي ما لا يرغبون، بما يعني خسرانها ولو لبعض مكانتها لديهم من جهة، ومن جهة ثانية الانجرار وراء النظام في تكريس مسعاه الرامي إلى اختزال الثورة في مشهد حواري ممجوج، لا يخرج عن السجال القديم المتجدد بين المؤتمر الشعبي العام وحلفائه من ناحية وأحزاب المشترك وشركائهم من ناحية أخرى. وإذا كان هناك من يدفع بأن إمكانية التوصل إلى تسوية تقضي برحيل الرئيس صالح عن السلطة تستدعي حضور خصومه التقليديين في اللقاء المشترك كجزء من المقدمات النظرية لهذه التسوية وفاعلين أساسيين فيها إلا أن هذا النوع من الحضور الأحادي للنخب الحزبية المعارضة يكرس في المحصلة النهائية، أو يعزز، الحديث عن هيمنة تلك الأحزاب على مسار ثورة شباب التغيير، وهو ما يباعد بينها وإدراك غاياتها الكلية، باعتباره يسند حجة النظام في كون الأحزاب تتصدر المشهد باسم الشباب، وهنا لا يمكن تبرئة زعامات في المشترك وقوى قبلية وعسكرية – بقصد أو من دون قصد - من الإسهام في خلق هذا الانطباع وتعاظمه بالصورة التي أمكن للنظام استغلالها والاشتغال عليها. محورية الحشد حتى الآن أمكن للرئيس صالح الظهور شعبيا في مواطن بعينها من خلال جمعتي "التسامح" و"الإخاء" قبالة خسرانه الشعبية بمواطن أخرى عديدة في ذات الجمعتين ولكن بتسميتين مختلفتين هما "الرحيل" و"الخلاص".. هنا سياسة "كسر الحجر بأختها" الضاربة عميقا في الإرث السلطوي، وبصرف النظر عن التباين في العدد والدوافع وآليات الحشد وإمكانياته بين الاعتصامات والاعتصامات المضادة فإن الرئيس صالح لم يزل قادرا على الحشد، والسؤال ليس إلى متى، إنما إلى أي مدى يمكن النظر إلى هذه الطريقة بوصفها مسوغا أذكى لدى الرئيس هاجس التفرد، وطرد عنه مخاوف اقتراب أن يصبح وحيدا؟ لا مراء في كونها أحد البواعث وربما من أهمها، غير أن لها ارتباط بفكرة الزحف، فالهلع الذي يثيره مجرد الحديث عن نية المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء الزحف على دار الرئاسة في السبعين وراء حشد عشرات أو مئات الآلاف من مختلف المحافظات للمرابطة قريبا منه، وهي خطوة لم يكن المراد منها أولا إلا الحيلولة بين المطالبين برحيل الرئيس وبلوغ دار الرئاسة، وثانيا النأي ما أمكن بقوات الأمن والجيش ذات الصلة بأبناء الرئيس وأبناء أخيه وإخوانه من مغبة اللجوء إلى القيام بتلك المهمة، باعتبار آثارها الكارثية التي تنبني على فضاعة جرم أن يكون الأمن والجيش بعدتهما وعتادهما في مواجهة متظاهرين عزل أقصى ما يملكونه الهتاف والتلويح، ويبدو أن الرئيس على إدراك تام بتبعات الزج بالقوات المسلحة والأمن في الواجهة، وما يترتب على ذلك من آثار مدمرة لن يسلم وذويه منها. يريد الرئيس أن يبدو الأمر على شاكلة "مؤيدو الرئيس/النظام في مواجهة المطالبين برحيله".. ومن قبل أريد اختزال مذبحة جمعة الإنذار بما يقرب من تلك العبارة، إنما بصورة تستبعد النظام/الرئيس بالمطلق، ف "المواطنون الذين ضاقوا ذرعا بمعتصمي ساحة التغيير في مواجهة هؤلاء المعتصمين".. أما وقد أمكن خلق المعادل الموضوعي للزحف بكوابح من ذات النوع في الشكل مع اختلاف في المضمون فإنه لا بأس أن تناط بسلاح الردع الذي يركن إليه الرئيس مهمة ثالثة تنهض قبالة اعتصامات ساحات الحرية والتغيير المختلفة. هكذا اطمأن الرئيس أخيرا، وبدا أكثر من مرة بهيئة الواثق من أنه يمسك بخيوط اللعبة، بل وأبعد من ذلك كما لو كان قد أسقط في أيدي خصومه، من خلال مبالغته المهولة في عديد حشود مؤيديه واستنقاصه الكبير من عديد المطالبين برحيله عن السلطة.. وبعيدا عن تلك المبالغة وذلك الاستنقاص فإن السجال في وعي الرئيس صالح يتركز في القدرة على الحشد المضاد لاعتصامات مناوئيه، ومن ثم انتهى به الحال إلى استحضار المحاججة بحق الأغلبية على الأقلية، باعتبار أن الأغلبية التي يرى أنها منحته الثقة رئيسا في العام 2006 لم تزل اليوم إلى جانبه في ميداني التحرير والسبعين. لست في معرض تأكيد إلى أية وجهة تتخذ الأغلبية هل الرئيس أم المطالبين برحيله، فتلك مهمة يمكن للرائي بالملاحظة البت فيها بسهولة، والمهم في الأمر أن ورقة الشارع هي ذاتها الرهان الذي يعول عليه النظام، ويبدو أنه في طريقه لاستنفاد كل السبل التي ستضمن له في قادم الأيام أن يظل ما أمكن قادرا على الحشد وبأعلى طاقة ممكنة.. فهل يتوجب على الطرف الآخر – شباب التغيير- تناسي فكرة الزحف بالمطلق وعدم مغادرة ساحات الاعتصام بغية مسايرة النظام حتى شلّ قدرته على الحشد، ومن ثم إعلانه الهزيمة وتسليمه بالخسران؟ بين باعثين حتما ستجني اعتصامات ساحات التغيير والحرية ثمارها، فسقوط النظام مسألة وقت ليس إلا، ومن شأن فكرة الزحف إلى دار الرئاسة في حال تم اتخاذها التأسيس لمواجهات دموية قد تتطور إلى حرب أهلية، تبدأ بتصدي مؤيدي الرئيس لمناوئيه على تخوم السبعين والوقوع فيهم بعنف ووحشية قد يسقط معها المئات قتلى وجرحى، ومن ثم انكفاء المعتصمين وفي أنفسهم من التمسك بالمسلك السلمي غضاضة وحسرة، وصولا إلى ذهاب ذوي المغدور بهم لطلب ثارت لهم عند الغادرين، بما يعني في المحصلة النهائية تضاؤل إمكانية رحيل النظام، وفي المقابل تتعزز المخاوف التي عمد إلى إذكائها، ويكون شباب ثورة التغيير قد أسدوه معروفا لم يكن يحلم به منهم. صحيح أن في جعبة النظام للمراهنة على عامل الوقت ما يستطيع به، أو يمكنه، أو يحاول من خلاله، إطالة أمد الاعتصامات بغية أن يدرك الضجر ويتملك اليأس شباب التغيير، بيد أن العبرة بمن سيستسلم أولا، فعلى امتداد الساحات يمكن القطع بأن لدى شباب التغيير من العزم على مواصلة الاعتصامات وفرة تكفي للقول باطمئنان إن تطاول الليالي والأيام عليهم لن يزيدهم إلا إصرارا على المضي صوب غايتهم التي تقصد رحيل النظام، فماذا عنه؟! تأتي خطوة سحب العديد من الوحدات الأمنية والعسكرية من مواقعها خارج صنعاء ومن ثم اتخاذها العاصمة مواضع لها في سياق مقتضيات الوعي المبكر بأن المناورة إلى أبعد مدى تتطلب التموضع في جبهة واحدة، وبموازاة جلب عشرات أو مئات الآلاف من المؤيدين، إن من تلقاء أنفسهم أو بوسائل الترغيب، لم يبد أن الرئيس صالح بدا مهتما لخروج عدد من المحافظات عن حكمه، والسبب أنه بالقدر الذي سيفيد من توظيف ميزانياتها لصالح المحتشدين حوله بما يضمن أدنى مسوغات الحديث عن امتلاكه الأغلبية، سيوظف ما ستئول إليه الأوضاع فيها من الفوضى أو مقدماتها - جراء فقدان الكثير من ساكنيها لمصادر أرزاقهم – للتأكيد على أن الفوضى واستطالة العنف والتقسيم والشطرنة مرادفات رحيله عن السلطة. هو عامل الوقت أكثر من أي شيء آخر، وكما أن لشباب التغيير عزائم يراهنون عليها تجعل صلابتها من الزمن مهما تطاول ليس تحديا حقيقيا من شأنه أن يثنيهم عن إدراك مبتغاهم المتمثل في مطلب إسقاط النظام، فإن للنظام وسائله التي يركن إليها لإطالة عمره والفت في عضد المطالبين برحيله.. يلتقي النظام مع شباب ثورة التغيير في المراهنة على عامل الوقت، ويختلفان في الباعث، فبينما يصدر شباب التغيير عن قوة معنوية تسندها عدالة مطالبهم التي تنشد العدل والحرية والمساواة والكرامة، يتكئ النظام إلى قوة مادية تتشبث بحاكمية الفرد واستبداده.. وشتان بين الباعثين..