قال تعالى :- { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ... } سورة الأنعام آية 125 دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس،حاملا رسالة رسول الله إليه، فما إن رآه كسرى مقبلاً، حتى أشار إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده، فقال بن حذافة "لا، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدفعه إليك يداً بيد، وأنا لا أخالف أمر رسول الله." فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا كسرى كاتبًا عربيًا مِن أهل الحيرة، وأمَرَه أن يقرأ الكتاب عليه، فإذا فيه" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام الله على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك." غضب هذا الرجل المغرور المتكبر رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالعظمة فقال ( إلى عظيم الفرس)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دقيقًا في ألفاظه فلم يقل (سلام عليك) بل قال (سلامٌ على من اتّبع الهدى)، أي إن اتبعتَ الهدى فسلامٌ عليك، وإن لم تتبع الهدى، فالسلام ليس عليك، بل على من اتبع الهدى... وهكذا .. ولكن كيف يأتي الخير من رجل امتلأت نفسه كبرًا وتيها فظن أنه الوحيد وما عداه صفرًا. وكيف يؤمل الإنسان خيرا وما ينفك مُتبعًا هواه يظن بنفسه قدرًا وشرفًا كأن الله لم يخلق سواه ولعل كسرى انفعل هذا الانفعال الشديد بسبب هزيمته الأخيرة التي نالها على أيدي الروم، فظن أن الأعراب والتابعين بدءوا يتجرءون عليه بسبب هزيمته. لقد فقد كسرى توازنه تمامًا إذ إنه جلب الرسالة من يد كاتبه، وجعل يمزِّقها دون أن يعلم أي شر يجره على نفسه، مزقها وهو يصيح: أيكتبُ لي بهذا، وهو عبدي ؟. ثم أمر بعبد الله بن حذافة، أن يُخرَج من مجلسه، فأُخرج، فلما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك الخبرُ قال "اللهم مزِّق ملكه". قام كسرى منتفخا وأمر كاتبه أن يكتب إلى باذان نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل، الذي ظهر بالحجاز، رجلين جَلْدين من عندك، ومُرهما أن يأتياني به. لكن باذان ما إن وصلته رسالة سيده كسرى حتى انتدب رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمَّلهما رسالةً له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستقصيا أمره، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات. فخرج الرجلان يُغِذَّان السير الى غايتهما تجاه المدينة، حتى إذا بلغاها علما مما رأيا من تعظيم أهل المدينة للنبى صلى الله عليه وسلم وحبهم له مدى خطورة المهمة التى أقبلا من أجلها حيث إنهما لا يستطيعان أن يأتيا بمحمد إلا إذا أتيا بأهل المدينة أجمعين، نظرًا للمحبة والفداء التى يصنعها أهل المدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم . ولما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شاربهما، فكره النظر إليهما، وأظهر ذلك لهما وقد أشاح بوجهه الى الجانب الآخر حتى لا ينظر إليهما وقال: ( ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي ). ودفع الرجلان إلى النبى صلى الله عليه وسلم رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، " شرِّف معنا " فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك، ويكفُّ أذاه عنك، و" إذا قلت : لا ، فإن كسرى قادرٌ على أن يهلكك ، ويهلك قومك". لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام ، وقال لهما :"ارجعا إلى رحالكما اليوم ، وائتيا غداً"، فلما غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي، فسألاه المضي للقاء كسري. فقال لهما "ص" "إن ربى قتل ربكما الليلة لن تلقيا كسرى بعد اليوم، فلقد قتله الله، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه"، فحدَّقا في وجه النبي"ص"، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا "أتدري ما تقول !! أنكتب بذلك لباذان ؟" قال: نعم، وقولا له: إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنَّك إن أسلمتَ، أعطيتكَ ما تحت يديك، وملَّكتكَ على قومك". خرج الرجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدما على باذان، وقالا له لقد أرسلتنا إلى رجل نأتيك به لا نستطيع أن نأتى به إلا إذا أتيناك بأهل المدينة جميعًا، وأخبراه الخبر. ولأن باذان كان رجلا لبيبًا عاقلا حازما، عقد مجلسا وقال فيه : إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من شهر لنعرف حقيقة محمد، قال له جلساؤه : كيف ذلك ؟ قال باذان: ننتظر حتى تأتينا الرسل من فارس، فلئن كان ما قال محمّدٌ من قتل كسرى حقًا فإن محمد نبيّ صادق، أما إن كان غير ذلك فلنا معه شأن آخر. وعلم أهل اليمن بالقصة كلها ، فظل باذان ومن معه من أهل اليمن فى انتظار الرسل شهرا كاملا، حتي علموا أن ثورة كبيرة قامت ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع ه، واستلم حكمه فحسبوا الليلة التي قتل فيها فإذا هي الليلة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرأ باذان رسالة شيرويه التي فيها " أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقامًا لقومنا، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم، وسبيَ نسائهم، وانتهابَ أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك ". فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه، حتى طرحه جانبًا، وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن، فلقد تأكدوا من صدق ما قاله محمد، ولمسوا ذلك بأنفسهم .. وصل الخبر إلى مدينة رسول الله يعلمهم بإسلام باذان وإسلام أهل اليمن التي هي امتدادًا جغرافيا للجزيرة العربية. وفرح النبى صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فرحًا شديدًا ، وقال لأصحابه مُرحبًا بوفدهم "أتاكم أهل اليمن ، هم أرق قلوبًا منكم ، وألين أفئدة، وهم أول من جاء بالمصافحة" .. وأرسل إليهم جماعة من أكابر أصحابه يعلمونهم الإسلام منهم الصحابى الجليل على بن أبى طالب ثم معاذ بن جبل الذي قال معلمًا إياه : " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات فى يومهم وليلتهم فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس "، وأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يظل باذان على ملكه .. وما هى إلا سنوات معدودات حتى كانت مطارق الفتح الإسلامى تضرب إيوان كسرى وتسيطر عليه ودخل الصحابى الجليل سعد ابن أبى وقاص إيوان كسرى بعد هزيمتهم دخل باكيًا يقرأ قول الله تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } سورة الدخان آية 25 : 29 .