بعد مرور 13 عاما على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم تندمل جراح الولاياتالمتحدة الأميركية، جراء تلك الهجمات الدامية التي نُفّذت على أراضيها، ولا يزال الجدل محتدما حول مُختلف البرامج الموروثة التي سنّتها الإدارات السابقة في إطار “الحرب على الإرهاب”، خاصة ما يتعلق منها بوسائل التعذيب التي أصبحت مباحة بعد تلك الهجمات. خلص تقرير استثنائي لمجلس الشيوخ الأميركي، اعترضت عليه على الفور وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه)، إلى أنّ استخدام تقنيات الاستجواب “المشددة” التي اعتمدتها الوكالة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم تسمح بإحباط تهديدات وشيكة تفيد بتنفيذ اعتداءات. وقد اتّهم التقرير في عشرين خلاصة، وكالة ال”سي آي ايه” بأنّها أخضعت 39 معتقلا لتقنيات وحشية طيلة سنوات عدّة، ومن بينها تقنيات لم تسمح بها الحكومة الأميركية، وقد تمّ تعدادها بالتفصيل في التقرير الّذي يتألّف من 525 صفحة، قامت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الّتي يسيطر عليها الديمقراطيون باختصاره ونشره. ماذا جاء في التقرير؟ قال التقرير الصادر عن مجلس الشيوخ الأميركي إنّ “السي آي ايه” استخدمت تقنيات استجواب متشددة طيلة أيام وأسابيع. وقد ضرب المعتقلون بجدران وتمّت تعريتهم ووضعهم في مياه مجمدة، كما منعوا من النوم طيلة فترات تصل إلى 180 ساعة. وقد تعرض المعتقل أبو زبيدة، إلى عمليّات إيهام بالغرق خرج على إثرها الزبد من فمه، وهو في حالة فقدان كامل للوعي تقريبا”. كما أشار التقرير في الإجمال إلى “أنّ 119 معتقلا أسروا وسجنوا في إطار هذا البرنامج السري لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في مواقع أطلق عليها اسم ‘المواقع السوداء' في دول أخرى لم يتمّ تحديدها، ولكنّها تشمل على ما يبدو تايلاند وأفغانستان ورومانيا وبولندا وليتوانيا. وجاء في خلاصة التقرير أنّ “تقنيات الاستجواب المتشددة ل “السي آي ايه” لم تسمح بجمع معلومات مرتبطة بتهديدات وشيكة، مثل معلومات تتعلق بقنابل موقوتة مفترضة اعتبر الكثيرون أنها تبرّر هذه التقنيات”. ويتهم التقرير “السي آي ايه” أيضا ب”أنها كذبت ليس على الجمهور الواسع فحسب، وإنّما أيضا على الكونغرس والبيت الأبيض، بشأن فعالية البرنامج، وخصوصا عندما أكّدت أنّ هذه التقنيات سمحت بإنقاذ أرواح”. كما أفاد بأنّ الاستجوابات التي قامت بها الوكالة “لم تكن فعالة”، وأنها كانت “أعنف ممّا اعترفت به الوكالة حتى الآن”. وفي سياق متصل، يرى مراقبون أنّ هذا التقرير الذي جاء ليدين أحد الأجهزة الفعالة والأساسية في السياسة الأميركية (وكالة الاستخبارات المركزية)، هو بمثابة “صفعة قوية” توجّهها واشنطن لنفسها، حيث أنّه يمكن أن ينعكس على مصالحها، خاصة الخارجية بالسّلب، من خلال ردود الفعل المحتملة التي يمكن أن تجنيها الولاياتالمتحدة في أماكن كثيرة من العالم لها فيها مصالح. كيف كانت مواقف الساسة الأميركيين؟ أثار فتح هذا الفصل الأسود من “الحرب على الإرهاب”، جدلا في الولاياتالمتحدة حول حدود الشفافية في إطار تصاعد المخاطر الإرهابية المرتبطة بتنظيم “الدولة الإسلامية”، وحول فعالية التعذيب عموما. فقد جدّد باراك أوباما، الذي كان قد وضع حدا لهذا البرنامج آن وصوله إلى السلطة في يناير 2009، القول إن هذه الوسائل “شوهت كثيرا من سمعة الولاياتالمتحدة الأميركية في العالم”. كما وعدا بالقيام بكلّ ما هو ممكن لضمان عدم تكرارها. وأضاف قائلا: “لا توجد أمّة كاملة، لكن أحد مكامن القوة في أميركا هي في إرادة المواجهة الصريحة لماضينا”. وفي نفس السياق، اعترف كلّ من الرئيس السابق جورج بوش الابن ونائب الرئيس ديك تشيني بالإضافة إلى مسؤولين سابقين آخرين في ال”سي آي ايه”، بأنّهم يتحملون مسؤولياتهم، غير أنّهم كثفوا من مداخلاتهم في وسائل الإعلان في الأيام الأخيرة للدفاع عن قراراتهم تلك التي اتخذوها في ظلّ ظروف خاصة، على حدّ تعبيرهم. أمّا في الكونغرس، فقد أعرب الجمهوريون عن خشيتهم من أن توفّر الشفافية المعتمدة “لأعداء” الولاياتالمتحدة الأميركية ما يمكنّهم من محاججتها به واستخدامه ضدّها، وكذلك من أن تثير تلك المعطيات التي كشف عنها التقرير ردود فعل ثأرية مماثلة لتلك الّتي ظهرت في فترة سابقة على إثر الكشف عن الإساءات التي ارتكبت في سجن “أبو غريب” العراقي سنة 2004. فصل أسود من "الحرب على الإرهاب" غير أنّ هذا الرأي لا يجد صداه لدى النواب الديمقراطيّين وكذلك بعض النواب الجمهوريين، مثل السناتور جون ماكين الذي تعرض بدوره للتعذيب في فيتنام من قبل سجانيه في وقت سابق. حيث قال ماكين في مجلس الشيوخ: “يصعب علينا تقبّل الحقيقة أحيانا”. وأضاف قائلا: “لا يتعلق الأمر بأعدائنا، وإنّما بنا نحن؛ بما كنا عليه وما نحن عليه الآن وما نريد أن نكون عليه في المستقبل”. وقد ألقى ماكين، المرشح السابق للبيت الأبيض، إفادة مؤثّرة عبّر فيها عن معارضته للتعذيب، الّذي كان قد تعرض إليه شخصيا في فيتنام، مؤكّدا أنّ بلاده لا يُمكنها تجنّب سيل من الأسئلة حول السنوات الّتي تلت اعتداءات 11 سبتمبر. كما اعتبر، أنّ هناك حملة “تضليل” لمنع نشر التقرير من جانب مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الحاليين والسابقين، الذين قالوا إنه سيعرض أمن الولاياتالمتحدة للخطر ويتسبب في إثارة الغضب في بعض أجزاء العالم الإسلامي، مشيرا إلى أنّ تلك الحجج واهية، ل”أنّ العالم يعرف منذ عقد من الزمن أنّ الولاياتالمتحدة تعرّض السجناء لمعاملة مهينة”. وأضاف أن الإرهابيين سيستغلون أيّ مبرر لمهاجمة المصالح الأميركية. كيف تفاعل العالم مع هذا التقرير؟ في الوقت الذي رّحّبت فيه منظمات عديدة للدفاع عن حقوق الإنسان بالتقرير الذي كان مُرتقبا منذ سنوات، مجدّدة دعوتها إلى ملاحقة المسؤولين عن هذا البرنامج بتُهمة التّعذيب، نددت العديد من المنظمات الدولية والدول المعروفة بخلافاتها مع واشنطن بما ورد فيه. حيث طالبت كوريا الشمالية التي تتهمها الأممالمتحدة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من جهتها، مجلس الأمن الدولي بإدانة الولاياتالمتحدة إثر نشر مجلس الشيوخ الأميركي لهذا التقرير المتعلق باستخدام التعذيب في استجواب مشبوهين بتهمة الإرهاب. واعتبرت وزارة خارجية كوريا الشمالية أنّ ما كشفه هذا التقرير من انتهاكات مارستها ال”سي آي ايه” بحقّ عشرات المعتقلين المرتبطين بتنظيم القاعدة، يشكل “اختبارا جدّيا لمصداقية مجلس الأمن المطالب بإثبات أنه ليس أداة بيد الولاياتالمتحدة تمارس من خلاله إجراءاتها التّعسفية، فليس من المعقول أن يناقش مسألة حقوق الإنسان في كوريا الشمالية ويغمض عينيه عن تجاوزات أحد أعضائه الدائمين”. كما أكّد متحدث باسم الخارجية الكورية، “أنّ هذه الانتهاكات تشمل التعذيب اللاإنساني الذي تمارسه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وأيضا ما شهدته الولاياتالمتحدة، مؤخرا، من حوادث قتل شرطيين أميركيّين بيض لمواطنين سود كانوا عزّلا”. من جهة أخرى، اعتبرت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف ماري لوبان، لدى تعليقها على التقرير الأميركي، أنّ اللجوء إلى التعذيب يمكن أن يكون “مجديا” في قضايا الإرهاب. وقالت لوبان ردّا على أسئلة “بي اف أم تي في ” وإذاعة “مونتي كارلو” بهذا الشأن “أنا لا أدين هذه الممارسات”. وأضافت “في هذه القضايا من السهل الظهور على التلفزيون وترديد عبارات من قبيل “يا للهول”، “هذا أمر سيئ”. صراحة أنا أعتقد أن من يهتمون بالإرهابيين ويقومون لهذا الهدف بانتزاع معلومات تتيح لهم إنقاذ أرواح مدنيين، هم أناس مسؤولون”، وفق تعبيرها. يذكر أنّ ماري لوبان ترأس الجبهة الوطنية التي أسسها سنة 1972 والدها جان ماري لوبان المتّهم بممارسة التعذيب خلال حرب استقلال الجزائر، حين كان ضابطا مظليّا في الجيش الفرنسي، وهي التّهمة التي ينفيها. من جهتها، أعلنت النيابة العامة في كراكوف (جنوب بولندا) الّتي تحقق في ملف السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في بولندا، أنها ستطلب الحصول على نسخة من التقرير الأميركي حول أساليب التّعذيب الّتي استخدمتها الوكالة.