هذا حوار كان الصحفي صلاح الدكاك قد وجه اسئلته لي قبل أكثر من سنة ،ولأنني قد تركت له هذه المدة الطويلة لنشره ،ولكنه لم ينشره ،فإنني أجد نفسي مضطرا لنشره ،مع شكري له على أسئلته ... -أين تبدأ الحجرية ،كحدود،وأين تنتهي ؟! -أنت ترى بأن الكتابة عن الحجرية هي ،بدرجة أساسية ،كتابة عن الأيديولوجيات ،لا عن المكان ...كيف تفسر لنا وجهة النظر هذه ؟! -في المحصلة هل يمكن القول بأن ضيقك بالايدولوجيا "لاسيما وأنك ناصري سابق "هو ضيق بحجريتك "على نحو ما؟! -ما الذي جعل هذه البقعة الجغرافية دون سواها ،تستقطب كل الجدل الذي دار حولها برأيك ؟! -في كثير من مقالاتك ،تبدو كمن يحاول" شقلبة " التصورات الشائعة عن رموز التنوير والثورة ،اليمين واليسار ،ألأممي والقروي ،الرائد والثانوي ،في الحجرية ...على سبيل المثال نقض النعمان ،ب"محمد حيدرة الحكيمي "،نقض حداثة الطرح ببداوة اللقب ،الجناحي ،الجوفي ،العتواني ؟!ما الذي تحاول أن تصل إليه بالتحديد ؟! -هناك من يرى بأن خطاب الوحدة كان حجريا فيما حضور الحجرية كان حصيلة التشطير كيف تقرأ مثل هذا الطرح ؟! -هل توافق على أن تعز ستغدو باهتة في حال أصبحت الحجرية محافظة مستقلة ؟!ما الذي يسلبه مشروع محتمل كهذا ،من الأولى ،وماذا يضيف للأخيرة ؟! -قال سارتر"اليهودي هو إنسان تعامل معه الآخرون باعتباره يهوديا " الاترىأن الهوية ،في الغالب ،هي فخ نقع فيه ولا نصنعه ...ما الإيجابي في أن يكون لك قوقعة لا مناص من حملها ؟!وما الهوية التي لا يزال" ناجي "مقسورا على الوقوع فيها ؟!
نص الإجابات على الأسئلة: #لست مهتما بحدود الجغرافيا ،لكنها تبدأ من الأذهان لتنتهي بالجغرافيا،التي قد تمتد في تقسيم إداري ما ،من جبل حبشي إلى مابعد"ا لمصلى" ،وقد تقصر وتنكمش في تقسيم إداري للجمهورية اليمنية ...لكنّ سؤالك يقوم على مسلمة وحدة الجغرافيا واستعلائها على التاريخ ،وهذا وهم يؤمن به الكثيرون،فالحجرية قد تحولت لديهم إلى انتماء قومي يملك من عناصر التاريخ المنتقى ،واللغة والعادات والتقاليد مايجعلها "يوتوبيا "للهروب نحو جنة "الفرادة الحجرية " #الكتابة عن الحجرية ،هي حتى الآن لا تغادر الحديث عنها من خلال رموزها السياسية ،وبالتالي تغييب الحجرية بانساقها اللغوية وعاداتها وطرق الانتاج فيها ،وتراكيبها الاجتماعية ...الخ ،هنا يصبح الحديث عنها متّجها إلى بيوتات ،وإيديولوجيات ،وليس عن الناس ،من هنا يكون نفوري من هذا المنحى الاختزالي ،الذي يحجب الرؤية ويقدم تصورا مغايرا للمعطيات الفاعلة في الواقع الاجتماعي ... #أنا ولدت ونشأت في المدينة ،بحارة القاهرة بوادي المدام ،بتعز ،حيث لا يوجد اصطفاء وتمجيد للعلاقات الأسرية والعشائرية ،واللهجة فيها مزيج للهجات الوافدين لهذه الحارة ،وبالتالي يسقط مفهوم الأصيل والطارئ ،الموجود في الأرياف بشكل عام ،لهذا شعرت بغرابة الريف حين بدأت بزيارته في الأعياد ابتداء من الصف السابع "أول إعدادي "
الأيديولوجيات في الأرياف الانتماء لها يقوم على العصبوية المتغلبة ،وهي شبيهة بعصبوية الحاكم ،حتى في نبذها للمختلف # الكثافة السكانية للحجرية ،وكونها في علاقتها مع الحاكم ،قامت على اساس العلاقة بين الرعوي والبيوتات التي استثمرت نظام الاقطاع الاداري ،كممثلة لهذه الجغرافيات ،كل ذلك من الاسباب التي جعلت هذه المنطقة وغيرها ،من المناطق المماثلة في التكوين ،تصبح مهمة ،في أي صراع سياسي على الحكم ،يمكن أن تماثل بين الحجرية والعدين من حيث اهمية المنطقتين للحاكم ...تستقطب الحجرية الجدل السياسي ،في فترات الصراع على الحكم ،كونها مثل إب ،أبناؤها رعايا في العهد المتوكلي ،ينتقلون من إمامة الى إمامة ،ومواطنوان في ا لعهد" الديمقراطي "يحق لهم انتخاب الف أو باء ،،لكن لا يحق لهم أن يضعوا خيارات مختلفة،خارج الخيارات المفروضة عليهم ...لهذا تظل هذه المناطق محل جدل ،واستقطاب ،فليس من الغريب إذاعدنا إلى الوراء أن نجد الاضطرابات السياسية والتمردات على الإمام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،في إب ثم الحجرية ،كان مقدمة ونتيجة طبيعية للصراع بين الإمام والأتراك #توصيف حديثي عن قراءة ماتحت التعبيرات السياسية في الحجرية ليس "شقلبة "وإحلال "،هذا توصيف سياسي منك ،فالأمور ليست استقصاد وردود أفعال ، إنما رغبة في الوعي ،والتحرر من مسلمات الوعي الزائف ،الذي أصبح يعيد إنتاج وعينا ولا وعينا ،لنتحول ونستمر " أقنان " لهذا الوعي الزائف ،فاحمد نعمان ،بحضوره السياسي ،كوريث للمحاصصة السياسية ،التي بدأت مع الأتراك ،ليس هو الأصيل ،ومحمد احمد حيدرة ،كامتداد لمدينة عدن وثقافة القاهرة في مصر بداية القرن العشرين ،ليس فرعا وهامشا ،لكن الوعي السائد هو الذي عمل على تسيٌد مثل هذه القراءة القاصرة ...حين جاء" حيدرة" إلى عدن ،اسس للمسرح إخراجا وتمثيلا ونصا ،وحين انتقل الى التربة بدعوة من الأخ الأكبر للنعمان ،اسس للروح الوطنية ،التي كانت مفقودة وملغيّة ،في إطار الانتماء ل"أمير المؤمنين" ،دون هوية وطنية ،متميزة عن" المؤمنين "هذا ما كرسته ،وحملته دلالات الاناشيد التي كان يلقنها تلحينا وغناء ،وعزفا على العود ، الرائد التربوي والمسرحي "محمد أحمد حيدرة "أو حين يدرس التاريخ والرياضيات والجغرافيا والتربية الوطنية ، أو حين يؤسس للمسرح في المدينة القديمة تحت شجرة "الطولقة "أو في العرضي بحارة الجحملية ،لهذا ضاق به العقل القائم على الاستحقاق العا ئلي في تمثيل المنطقة ،وكتب الاستاذ النعمان والقاضي المجاهد حاكم الحجرية ،وكذلك وافقهم عامل التربة ، فكتبوا عنه تقريرا رفعوه إلى "الإمام يحي "عن طريق ابن الإمام" سيف الاسلام القاسم "،الذي زار" التربة " أواخر الثلاثينيات ، اتهموا فيه" حيدرة " بالكفر ،لأنه حسب زعمهم يفسد أخلاق الناشئة ،ويعلمهم الاناشيد التي تمجد الوطن ،،ولا تثني على "مولانا الإمام "وكذلك لأنه يقول بكروية الأرض ! اعتقد أن الأستاذ" القدسي" الذي درس في ثلاثينيات واربعينيات القرن العشرين ،في مدرسة "دار الذهب "كان أهم وأكثر وعيا وحداثة من "قاسم سلام "إذن المسألة ليست" شقلبة "وإنما ممارسة للوعي ،باتجاه الوعي بواقع وفاعليات مختلفة مع السائد المتسيّد على الأفهام ... #بالنسبة ل"حداثة الطرح ،وبداوة اللقب "أنا اقرؤها واعيا لهذا التلفيق ،الذي يجمع هذه الثنائية ،التي تتعايش حينا ،لكنها في فترات الضعف تسقط في بداوة اللقب ،وتغييب الرؤية الحداثية ،بفعل التحولات والغلبة السياسية ،لطرف دون طرف ،لهذا يستحضر المريدون الكثير من هذه الأسماء للارتزاق بها بعد أن قتلو ها كرؤية ،لتصبح لا فتات يحملها الضحايا كإرث "مناطقي "تعبر عن الظلم الواقع على هذه الجزر المتفرقة "والتي تعبر عن نفسها بوعي يخلق غربة واتساع للمسافة بين هذه الجزر ! الاحتفاء بالموز السياسية اصبح كما يرى غالب هلسا بحق ،في كتابه "الهاربون من الحرية "يضفي على الرموز المتوفاة هالة لا يمكن اختراقها "إذ يصبح كاملا ،وفوق النقاش ...ونختلق تاريخا مزورا لرجل المناسبة ،ونضعه في سياقات لم تخطر بباله قط "لقد لا حظ لينين كما يذكر غالب هلسا ذلك في كتابه سابق الذكر "أن اكثر الناس إطراءلماركس ،وتبجيلا لذكراه هم المرتدون عن أفكاره ،الذين يسعون لتشويهها "يمكنك ان تسحب هذا الاقتباس على بعض الاحتفاءات برموز مثل" الحمدي" ،و"فتاح" و"عيسى" ،وغيرهم اعجبني في رواية "الجزيرة تحت البحر "لإيزابيلااللندي،في حديث احدى شخصيات الرواية عن رفضه لطريق النضال عبر "الجزر المتفرقة "الذي لن يؤدي إلى تحرير العبيد ،لكنه سيطيل من أمد العبودية ! هذا أشبه بالجزر المتفرقة التي أصبحت هويات ولا فتات نسير خلفها ... خلاصة الفكرة ،هي أنني لا "أشقلب "و إنما باحث عن التحرر من أحادية الفهم وصولا إلى الكثرة القرائية المغيبة ... خطاب الوحدة أنتجته الشريحة المثقفة ، ابتداء من عشرينيات القرن العشرين وما بعدها ،وهي شريحة تمتد عبر اليمن بل وتمتد الى "الحزب الوطني الحجازي "والقوميين العرب ،وحزب البعث ،ومصر عبد الناصر ،وبالتالي فهو ليس حكرا على منطقة دون أخرى ،إنه مرتبط بالوعي وليس بالجغرافيا ! #عندما تنطلق التقسيمات الإدارية من شروط التنمية ،للإنسان ،فليس هناك مشكلة ،لكن العقلية العصبوية للأنظمة المتخلفة ،لاتنتج إلاّعصبويات مماثلة ،ولا تستطيع أن تدير الأزمات إلاّمن خلال هذه العصبويات المماثلة لها ... فعندما يكون النظام السياسي، نظاما وطنيا ،يستطيع أن يضع تقسيما إداريا لحاشد وبكيل والحجرية وغيرها من المناطق ،وفقا لاحتياجات التنمية ،وليس لا حتياجات التخلف ... #الهويات ،صناعة بشرية تاريخية ،وليست مسلمات متعالية على البشر .اساس الهويات الحيويّة والمتعافية ،هو التعاقد على مواطنة متساويةوالمنفعة المشتركة ،لكننا نتعامل مع الهويات على أنها انتماءيعلو على خيارات الناس ، نحن بهذه الطريقة من التفكير نصبح شبيهين بالحيوانات التي لا تستطيع "أن تشاهدإلاّ الشكل الذي انتظمت عليه ادمغتها "وكذلك الهويات التي تصنع لنا في فترات الضعف ،تصبح خيارات جبرية ،لم نعتد مشاهدة غيرها ،فتوهمنا أنها فطرية وهي إنجاز سياسي يصنعه المتغلب ،مثلما نشاهد اليهودي ،باعتبار يهوديته فطرية وليست اجتماعية وتاريخية ،كذلك تتحول الانتماءات لدينا إلى جبريات فطرية ،ليس للإنسان خيار فيها ... الهوية التي لا أزال مقسورا على الوقوع في جبريتها ،هي المحيط الثقافي والاجتماعي ،في اليمن ،الذي لا يشجع على وجودفرادة في الفلسفة والاجتماع والأدب ....يمكنك أن تقارن مع مصر وسوريا كدول مستبدة تشبهنا ،لكن" عبقرية المكان" لديهم بما هو معطى تاريخي واجتماعي ،يساعد على وجود عباقرة ،في الفكر الفلسفي والاجتماعي والعلمي والأدبي ..