في السابق، كان الرأي الشرعي في مسألة سياسية محضة يحسمها، ويريح الناس من تفاصيلها . غير أن رأي العلماء الشرعي بات سهلاً أو جاهزاً وسريعاً في أمور لم يطلب أحد منهم الخوض فيها أو بيانها. الآن، وبصراحة شديدة بات الرأي الشرعي منفذاً أو عاملاً بارزاً في إثارة الناس بالإيجاب والموافقة وبالشك والمواربة. والحق أن السياسة المصرية التي اتخذت قراراً بإقامة جدار "فولاذي" على حدودها مع فلسطين لم تكن بحاجة إلى فتوى شرعية طالما رأت أن الأمر يختص بالأمن القومي ونحو ذلك. ولأنه قرار سياسي، فإن معارضته جائزة بالمفهوم السياسي، ونقده ممكن بكل المفاهيم شأنه في ذلك شأن قرارات أخرى كثيرة على أن معارضة الكثيرين للقرار ونقدهم له لا تعني بحال التراجع عنه طالما كان الأمر يختص بالأمن القومي. ولقد كان يمكن اعتبار فتوى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي تعبيراً عن قلق الكثيرين وخوفهم من أن يكون المقصود هو "سد كل المنافذ على غزة للزيادة في حصارها"، لولا أن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر "اجتمع على الفور" على طريقة "وانتقل إلى مكان الحادث على الفور ليصدر بياناً يؤكد فيه أن الجدار الفولاذي "يمنع أضرار الأنفاق التي أقيمت تحت أرض رفح المصرية، والتي يتم استخدامها في تهريب المخدرات وغيرها بما يزعزع أمن واستقرار مصر". مع ذلك كان يمكن اعتبار فتوى المجمع تعبيراً مماثلاً عن قلق الكثيرين على الأمن القومي لمصر، لكن عضو المجمع الدكتور عبدالله النجار الذي سبق له الزج بنفسه في مستنقع الفتنة الكروية بين مصر والجزائر سارع بالتأكيد على أن فتوى الشيخ القرضاوي خاطئة مؤكداً أن "بناء الجدار واجب". هكذا خرج القرار عن أهدافه وخرج الجدار عن مضامينه السياسية ليصبح مسألة شرعية يفتي فيها وعنها الجميع. لقد فات على الطرف الأول "المعارضين للجدار" أنه ليس المنفذ الوحيد لدخول البشر والمساعدات إلى غزة ومن ثم فلا حصار ولا تجويع. أما الشيء المؤسف في صفوف المؤيدين للبناء "من المشجعين وليس من أصحاب القرار" فهو تصوير كل معارض للجدار على أنه عميل إيراني حتى وإن كان الشيخ القرضاوي. لقد نسي هؤلاء أن القرضاوي كان هو الوحيد الذي تصدى للمد الإيراني في الدول العربية.