ليس عيباً أن نعترف في إطار واجب نقد النفس والذات بأن تقاسم الحكومة قد عطل الحياة السياسية، وأن الإصرار على أن هناك ثورة وثواراً قد قوّض النظام والقانون، وصادر الحقوق، وأحلّ الفوضى. إن ثقافة الحق والواجب مازالت غائبة عند كثيرين ممن يعملون في الساحة السياسية، ولا يضعون في اعتبارهم أنه مع التسليم بأن النظام والقانون يرتكزان إلى مبادئ كونية. ما دعاني إلى كتابة هذه السطور مجموعة من السفراء الذين يعملون بوزارة الخارجية، وهم من المتقاعدين، قد اعتذروا عن حضور ندوة دعا إليها وزير الخارجية خوفاً من أن تظهر مواقفهم متذبذبة أمام الثوار، إنهم يمنون أنفسهم في أن يكونوا ضمن السلك الدبلوماسي الجديد بالرغم من تقاعدهم. بوضوح شديد أقول: إننا بحاجة إلى ثقافة مستنيرة، تعزز فكرة الحقوق، تنتقل بنا من المصالح الخاصة إلى المصالح العامة التي ترتكز على القانون، بعيداً عن التقاسم والمحاصصة. نحن بحاجة إلى الخروج من دائرة الثورة المزعومة التي جعلت كل الفاشلين يصادرون حقوق الآخرين تحت شعار الثورة. المتقاعدون يريدون أن يكونوا سفراء؛ لأنهم وقفوا مع الثورة، والطلاب الحاصلون على نسب متدنية يريدون الالتحاق بالجامعة، وإلا لماذا قامت الثورة من وجهة نظرهم، والحراك يريد انفصالاً؛ لأن الثورة أرادت ذلك. أتكلم عن ثقافة الفوضى التي سادت المشهد السياسي والاجتماعي، والتي تفصل بين الحق والواجب. لابد لنا من الاعتراف بأن الإصرار على فكرة الثورة يساعد الفوضوي في ضرب كل القيم ومصادرة حقوق الآخرين، وللأسف فإن الصحافة لم تقم بواجبها، فهي المعبرة عن صوت الرأي العام، لكنها لم تقم بالعرض الأمين لقضايا الوطن والمواطن. أريد أن أقول بوضوح: إن ما نحتاجه هو إعطاء الناس حقهم وفق النظام والقانون، وهذا يتطلب فهماً وإدراكاً حول ضرورة توفير الأجواء التي تسمح لكل الناس أن يكونوا ضمن الذين يحصلون على حقوقهم على مختلف المستويات حتى نتجنب مخاطر التغييب في الحقوق والواجبات. نحن بالفعل بحاجة إلى ثقافة وطنية تؤمن بها النخب السياسية؛ تجنباً للمزايدات التي تقترب من الرغبة في التعجيز، وتدفع بالعمل العام إلى قفزات غير محسوبة لمجرد دغدغة المشاعر، والظهور بمظهر المعبر عن مطالب وطموحات الناس، ودون إدراك أن المزايدات تجر إلى المغامرات. إن القدرة على الإفساد فيما يخص العملية السياسية بشكل عام والقضية الوطنية بشكل خاص، باتت أكبر تأثيراً من أية قدرة على البناء. ومما لاشك فيه إنه عندما يكون هناك طرف لديه القدرة على البناء بشكل إيجابي والتوصل إلى أمور إيجابية فإن قدرته تكون أضعف بكثير من أي طرف آخر يريد أن يؤذي ويفسد هذه الجهود. إنه من السهل للغاية أن يتم إفساد الجهود وعرقلة أية مسيرة للتهدئة؛ لأن هناك قوى كثيرة تعمل بشكل سلبي، وتريد استمرار جر الأمور إلى المواجهة والتصعيد؛ لأن لها مصالحها في ذلك. هذه القوى استفادت من الفوضى التي بشرت بها أمريكا، واعتبرتها فوضى خلاقة؛ حيث ركبت هذه القوى هذه الموجة، وزعمت أنها تحمي الثورة، مع العلم أن الثورة - أي ثورة - تنشأ ضد الظلم الاجتماعي، والاحتكار الاقتصادي، والجهل والفقر. وهذه القوى قد مارست الظلم الاجتماعي، وهي بنفس الوقت تحتكر الاقتصاد وتتمايز طبقياً، حيث تنحدر من سلالة المشيخ, وتشجع التخلف, وتوسع دائرتي الجهل والفقر. فقد استولت على بعض المدارس والجامعات، وحرمت الطلاب من عام دراسي كامل، ومازالت مليشياتهم تحتل جامعة صنعاء حتى هذه اللحظة. إننا أمام قوى انقلبت على ثورتي سبتمبر وأكتوبر وعلى الوحدة, وأدارت رحى العنف، ودعت إلى مزيد من التفتت وتقويض السلام والأمن الاجتماعيين والتدمير الاقتصادي. من المضحك أن يكون حميد الأحمر وعلي محسن والزنداني قادة الثورة. إن الثورة التي نريدها ليست بالبندقية، ولا بالاستغلال، ولكن ثورة العلم والمعرفة تستفيد بالعقل، وتؤمن بقيمة العمل. ثورة تصنع بسلميتها سلامها، وتحافظ على وحدة الأرض والإنسان. إن الذين أعلنوا أنفسهم حماة للثورة قد أخذوا الكثير، ولم يعطوا شيئاً سوى الآلام، وأغرقوا المجتمع في صراعات سياسية مبنية على الأكاذيب، وأشعلوا حروباً مات فيها المئات، وأزهقت أرواح كثيرة، ودمرت مدن بدعوة إقامة الدولة المدنية. أي دولة مدنية هذه التي تكون فاتورتها ضياع الوحدة والأمن؟ أي دولة مدنية هذه التي تأتي تحت أزيز المدافع ولهيب الصواريخ وقطع الطرقات؟ وما الفرق بين الشخص الذي يحكم بالقوة والشخص الذي تفرضه القوى؟. يتحدثون عن الدولة المدنية وهم يشعلون حرباً مدمرة أخذت في طريقها أعداداً كبيرة من الناس وأرقاماً مخيفة من الأموال، لو أحسن استخدامها لنقلت اليمن إلى أعلى درجات المدنية والتطور.