الدقائق أو السنوات المتبقية من عمرك هي فرصة ثمينة لتحاول ألا تكون ساذجاً، فلا تهدرها في إحصاء عدد المرات التي كنت خلالها ساذجاً، حتى لا يَخفق بيرق السذاجة على رفاتك كشاهد قبر.. كبار السُّذَّج هم أولئك الذين يوقنون بالبدايات والنهايات ويُلحُّون في طرح السؤال: كيف تتوقع أن تكون نهاية الأحداث في مصر، تونس، سوريا، اليمن؟!.. نهاية الأزمة المالية الأمريكية... نهاية التاريخ.. نهاية العالم.. نهاية الجنس البشري و.. نهاية هذه المقالة؟! إنني -بطبيعة الحال- أحد هؤلاء السذَّج الكبار ولا أستطيع بهذا المعيار - كما لا تستطيعون – إلا أن نكون كذلك، مع اختلاف أنصبتنا من السذاجة وحصصنا فيها.. كان أستاذ العلوم الطبيعية يردد على مسامعنا: " المادة لا تفنى ولا تُستحدث.. لا تنشأ من العدم ولا تنتهي إلى العدم".. بينما كنا نستعجل نهاية الحصة وننتظر جرس الفسحة على مضض.. وكان أستاذ الدين يرتل " كل من عليها فانٍ.."، بينما كنا -كالعادة- نتشوق رنين جرس الحسم.. "أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد".. تلخص مقولة "ناظم حكمت" اللئيمة هذه مأزقنا.. إنها تقول لنا باختصار إن ما نعيشه الآن هو الجميل الذي نبدده لهاثاً خلف الأجمل الذي لن نعيشه ولن يأتي.. لا تختلف مقولة "ناظم حكمت" كثيراً عن مقولة "بكرة بلاش" الشعبية، إلا في كون هذه الأخيرة مجهولة القائل ومعلقة بلا احتفاء على مدخل "كافتيريا" مالكُها خفيف دم ويجيد الاستثمار في هذا الوهم الذي نتواطأ معه في الظاهر ظُرفاً وهو في أعماقنا - كبشر مجبولين على السذاجة –عين اليقين. يضع الحزب المعارض و"الحاكم" لافتة بالمقولة ذاتها مترجمة إلى لغة رصينة على مدخل مقراته وفي وسائله الإعلامية: "من أجل مستقبل أفضل ؛ لنا الغد ؛ ليكون القادم جميلاً- صَوِّت لنا..".. يستخدم الحاكم صيغة التفضيل لما يعد بأن يحدث مستقبلاً في العادة؛ "أفضل" ؛ ليؤكد أن الحاضر فاضل، ويستخدم المعارض النعت بلا تفضيل ليؤكد أن الحاضر غير فاضل ولا جميل، ويتواطأ كلاهما على أن الحاضر هو الثمين الذي يتنافسان للسيطرة عليه لا لشيء إلا لوجه السيطرة.. ومن على المنبر يجهش الواعظ بالبكاء وهو يرتل: "وللآخرة خير لك من الأولى".. فيما هو يفاضل بين زوجاته الأربع، لا بين دنيا وآخرة.. إن المجدِّفين في وحل البؤس وشظف العيش هم الذين يستعجلون الوصول إلى مرفأ الراحة الأبدية وينظرون إلى القيامة باعتبارها طوق نجاة.. فيما ينظر الغارقون في لذائذ ونعيم الحاضر إلى هذا الطوق باعتباره مشنقة.. إن الآخرة هي دار الممر وجسر العبور إلى الدنيا التي هي بالنسبة لمحترفي الوعظ وكبار البكَّائين، دار المقر والخلود، على نقيض ما يدعون الناس إليه ويروجون له بينهم.. في طفولتي المبكرة كانت عمتي توصد باب الحجرة عليَّ وتذهب لبعض شئونها بعد أن تكون قد وعدتني بأن تصطاد "فرخ الكذب مشقَّر بريح" وتحضره لي لدى عودتها، وهكذا كان محبسي يغدو وردياً ومغموراً ببهجة وعدها الخرافي... وفي كل مرة كانت تذهب تعدني به وتعود لتخبرني بأنها فشلت في اصطياده، لكنها تؤكد أنها لابد ستنجح في المرة القادمة، وكنت -خلافاً للمتوقع- أفرح لفشلها، لأن انغماسي أكثر فأكثر في نعيم الانتظار الساذج، كان قد أصبح مكافأتي الكبرى نظير غيابها، ونجاحُها في اصطياد "فرخ الكذب..." سيسلبني - ولا ريب - إمكانيةَ الانغماس في هذا النعيم غير المنظور.. هل نحب أم نمقت أن يكذب علينا الآخرون؟! "تعا ولا تجي واكذب عليَّ.. الكذب مش خطيّة.. أوعدني إنه راح تجي وتعا.. ولا تجي".. على هذا النحو من المكاشفة تجيب "فيروز" ويؤكد نزار قباني "قل لي ولو كذباً كلاماً ناعماً...." إن الرجل الذي يتقن الكذب هو الذي يكسب قلب المرأة، والزعيم الذي ينثر الوعود الوردية على رؤوس الجماهير هو الزعيم المحبوب والأكثر شعبية، إذ أن أكثرية البشر يمقتون جفاف الحقيقة ومواجهة الواقع كما هو.. لقد تفوقت الرأسمالية على التطبيق الاشتراكي لأنها تتواطأ مع النقائص البشرية وتستثمرها، وأخفق التطبيق الاشتراكي الماركسي - نسبياً - لأنه كان حادَّاً ومباشراً في تعاطيه مع جوهر الوجود البشري المادي مجرداً من زيف الرتوش ورومانسية النقائص الاجتماعية والنفسية... إن للاشتراكية العلمية هي الأخرى بكل ماديتها، فردوسَها الذي بشَّرتْ به والمتمثل في "مجتمع المشاع الحديث"، فإذا كان هذا الوعد الأُخروي هو الزلة الوحيدة للماركسية التي أوهنت تماسك بنائها المادي إلى حد ما، فإن هذه الزلة هي استثمارها الوحيد في سوق الغيبيات التي ضمنت للحلم الاشتراكي استمرارَ الرواج الاجتماعي، إذ أضفت عليه مسحةَ رومانسية شديدة الاستقطاب على غرار الأديان ذاتها.. من المؤسف أن الابتذال والصخب والدعاية الزائفة والوعود البرَّاقة هي البضاعة الأكثر رواجاً، وأن الواقعية والتفكير العلمي الذي يتعاطى مع المحسوس والقابل للقياس، هو أكْسَدُ البضائع... تصبحون على "ربيع عربي" يشبه "فرخ الكذب..." الذي وعدتني به عمتي قبل أكثر من ثلاثة عقود...