لعل الصيام هو أكثر شعيرة يمكن أن تتجلى فيها وحدة المسلمين كأمة يجوعون معاً ويشبعون معاً وينيبون معاً ويبتهجون بعيد واحد معاً، وقد تعالت منذ عقود أصوات كثيرة تنادي لتحقيق هذه الغاية بالاستفادة من التطور العلمي في المراصد الفلكية ووسائل الاتصال، آملة أن يكون رمضان هو موسم الشعور العام المشترك لهذه الأمة، ولكن ثورة العلم التي طوت المسافات والأزمنة، وجعلت من العالم قرية، لم تستطع أن تطوي صفحة الجدل النمطي حول اختلاف المطالع في تراثنا الفقهي، وأصبحت رؤية الهلال مظهراً من مظاهر السيادة، وكل دولة تحدد لمواطنيها إمساكهم وإفطارهم. اليوم أصبحت هذه الشعيرة الدينية جزءاً من منظومة العلاقات الدولية، ومظهراً من مظاهر الولاء والانتماء لهذا التحالف أو ذاك من أطراف الصراعات الإقليمية، وأصبح الصوم والإفطار أداة للشحن الطائفي والمذهبي، وخندقاً جديداً للاقتتال في المجتمعات الإسلامية على مستوى المدينة والقرية الواحدة. فمن صام الثلاثاء فإنه رافضي يبغض الصحابة ويعادي السنة، وهو عميل لإيران، ومشارك مع الأسد في معركة القصير، ومحتل للجزر الإماراتية. ومن صام الأربعاء فإنه وهابي وتابع ذليل لأمراء النفط، وجزء من المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط،والمؤامرة الصهيونية على الأمة. هل هذه عبادة لله أم عبادة لغير الله، يجب الصوم على من رأى الهلال أو ثبتت له رؤيته بما يثبت به الحق من الشهادة، وليس عليه بعدها أن يوافق الرياض ولا طهران، لا مرسي ولا السيسي. إذا رأى الحوثيون الهلال فيجب الصيام على الإصلاح، وإن رآه صوفيون فيجب الصيام على السلفيين، إن كان الجميع يعبد الله، أما إن كان كلٌ يعبد انتماءه، فيجب أن يكون للدولة مرصد خاص كإجراء إداري، تحافظ به على السلم المجتمعي، وتغلق به باب الشر والفتن، وإذا كنا قد فشلنا في الاستفادة من هذه الشعيرة في التآلف فلنمنع على الأقل أن تكون عاملاً للتناحر.