جاء تصويت مجلس النواب البلجيكي بالإجماع على محمد خليفة مشروع قانون حظر ارتداء النقاب والبرقع في الأماكن العامة كسابقة هي الأولى من نوعها في أوروبا، حيث طرح المشرعون نقطتين هما الأمن الاجتماعي الذي يستلزم التعرف إلى هوية الفرد في الفضاء العام واحترام كرامة المرأة والقواعد الديمقراطية الأساسية، وسيدخل المشروع حيز التنفيذ بعد مصادقة مجلس الشيوخ عليه . يذكر أن مشروع القانون كان مجمداً منذ عدة سنوات لكن الأحزاب اتفقت حوله أخيراً . وقالت النائبة الليبرالية دوني دوكام إنها تشعر بالفخر لرؤية بلدها الصغير يكسر الحواجز التي تحتجز خلفها النساء اللواتي يقبعن في العبودية، وأشارت إلى أنه حتى إذا لم تتم الإشارة إلى البرقع والنقاب في النص الذي ينطبق من الناحية النظرية أيضاً على أغطية الرأس أو أقنعة الكرنفال، فإن العلاقة الصعبة بين المجتمع البلجيكي والإسلام غذت النقاش . وبعد حظر النقاب في بلجيكا تحركت سويسرا وإيطاليا وهولندا ضد النقاب، ففي سويسرا صوت المجلس المحلي في كانتون آرجاو الشمالي المتاخم للحدود الألمانية بالإجماع على مبادرة رسمية تهدف إلى منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة وأيدت أغلب الأحزاب الرئيسية هذه الخطوة، وتجري مناقشة هذا الموضوع في كانتونات سويسرية أخرى من بينها العاصمة بيرن .
وأما في إيطاليا فقد طرحت رابطة الشمال مشروع قانون يحظر ارتداء النقاب لكن البرلمان لم يناقشه إلى الآن، غير أنه في عام 1975 صدر قانون يحظر تغطية الوجه بالكامل في الأماكن العامة مما ينطبق على النقاب ضمن اجراءات حماية النظام العام . وفي هولندا جدد حزب اليمين المتطرف بزعامة غيرت فيلدرز مساعيه بحظر ارتداء النقاب، ويعتقد هذا الحزب أن المسلمين يهددون قيم التحرر الأوروبية .
ويأتي الإقرار البلجيكي في وقت تتجه فيه فرنسا إلى إصدار قانون مماثل، لكن الجمعية الوطنية (البرلمان) اتخذت قراراً غير ملزم بذلك، وكان رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون ذكر خلال اجتماع عقد في مدينة نانت يوم الخميس 11 مارس/ آذار الماضي أنه سوف يتم إقرار قانون حظر ارتداء النقاب بعد التصديق عليه من الجهات التشريعية، وقال: “إننا نحترم جميع الأديان، وما لا نحترم هو التبشير العدواني والانعزال المجتمعي" . وأضاف رئيس الوزراء الفرنسي: “إن ارتداء الحجاب الكامل يشوه مفهومنا للانفتاح على الحياة الاجتماعية . وفي ظل نظام ديمقراطي، لا نعيش متخفين . ولهذا السبب قررنا مع رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي سن القانون" . وكان رئيس الوزراء الفرنسي قد طلب من المحكمة العليا المساعدة في صياغة قانون يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وكانت لجنة برلمانية قد اقترحت في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي إصدار قرار ضد النقاب على أراضي الجمهورية، إضافة إلى ذلك غدت الأنظمة البرلمانية الأوروبية تتناقش حول ما إذا كان يجب حظره .
ويدور جدل شعبي واسع منذ أن ألقى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خطاباً أمام مجلسي البرلمان في 22 يونيو/ حزيران ،2009 قال فيه إن النقاب يشكل علامة استعباد للمرأة ولا يعد رمزاً دينياً، فلا يمكن قبول نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة، ولذا فإن ارتداءه غير مرحب به في البلاد لتعارضه مع القيم الفرنسية . ودافع في خطابه عن العلمانية مؤكداً أنها ليست رفضا للديانات بل إنها مبدأ يقوم على الحياد والاحترام للأديان، وانه يتم احترام الدين الإسلامي بنفس قدر احترام باقي الأديان . وطلب من المسلمين احترام الميثاق الاجتماعي والمدني الفرنسي، وشدد على أن أتباع الديانات ينبغي أن يمارسوا شعائرهم بوعي، ويبتعدوا عن كل مباهاة أو استفزاز، ويحترموا الآخر، ويقدروا نعمة العيش في بلاد تحترم الحرية ولكنها لا تريد أن تتشوه طريقة حياتها وتفكيرها وعلاقاتها الاجتماعية .
لقد انبثقت علمانية فرنسا من الثورة الفرنسية مستندة على حرية المعتقد، فالفرنسيون يعتبرون العلمانية مبدأ عالمياً شاملاً، ومبدأ جمهورياً تكوّن عبر الزمن وساهم في صنع تاريخهم . وتمت صياغتها في المادة 10 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 “يمنع التعرض لأي شخص بسبب آرائه وأفكاره، بما في ذلك الدينية منها، شريطة ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام الذي أرساه القانون" . وفي 20 سبتمبر/ أيلول 1927 تمت علمنة الأحوال المدنية والزواج بدخول القانون المدني حيز التنفيذ فأصبحت المواطنة غير مرتبطة بالدين . وباعتماد القانون الجمهوري في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1905 القاضي بالفصل ما بين الدين والدولة، وبعلمانية الجمهورية، وباحترام كلّ المعتقدات، ترسخ مفهوم العلمانية في المؤسسات الفرنسية كقيمة من القيم المكونة للميثاق الجمهوري، كما تنص المادة الأولى من دستور عام 1958 على أن فرنسا جمهورية علمانية وديمقراطية واجتماعية، وتكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون من دون تفرقة بسبب الأصل أو الجنس أو الديانة، وتحترم جميع المعتقدات الدينية، وتضمن حرية العقيدة وتعددية الديانات .
ومن هذا المبدأ الأساسي للعلمانية تنبثق عدّة موجبات قانونية ملزمة للمواطنين وكافة مؤسسات الدولة، وبالتالي فإن من يقيم على أراضي الجمهورية الفرنسية أو أي دولة أوروبية أخرى ينبغي عليه أن يلتزم بقوانينها . وعلى سبيل المثال، يتوجب على من يقيم في أوروبا أن يحترم دستورها العلماني، وأن يعي الصراع الطويل الذي خاضه الأوروبيون في مواجهة هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وما تواجه العلمانية في أوروبا وبالأخص في فرنسا في العصر الحاضر من تحدٍ جديد يتمثل في التشدد الديني، وأن ينتهج المسلمون نهج الاعتدال ويبتعدوا عن الغلو في الدين هذا الغلو الذي أدى انتشاره داخل الجاليات المسلمة في أوروبا إلى نتائج وخيمة على أفرادها كانعزالهم عن المشاركة الاجتماعية، وخلقوا بذلك أجواء من الشكوك حولهم، وجعلوا الأوروبيين يربطون بين سلوكيات المسلمين وما يشاهدونه من أعمال عنف في البلدان الإسلامية، ولهذا ينبغي على المسلمين أن يسعوا إلى التواصل والتفاعل مع الحضارة الأوروبية والتعايش المدني تحت سقف وطن واحد، وطن يكفل حقوق الجميع بحدود التساوي المدني، كما يرى الفيلسوف الألماني شلنج أن الدولة هي “الجوهر الاجتماعي الذي وصل إلى الشعور بذاته، وهي تجمع في ذاتها بين مبدأ الأسرة، ومبدأ المجتمع المدني" .
وبعيداً عن كل نقائض العقل المحض التي تقوم على الحجة الدياليكتية والأفكار المتشددة التي تفترض الشمول المطلق وتعود إلى الارتداد والتناقض على غير نهاية في جميع الحجج المضادة لتصطدم بصعوبة القوانين العلمانية، وبين أخلاقية وثقافة الإنسان الغربي في القاعدة الكلية وبين السلوك والقانون من حيث ممارسة الفضائل القادرة على أداء واجباتها نحو ربها ودينها، ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات أو تهذيباً خلقياً من دون أن تنصب آثاره في نظام اجتماعي عام يعيش جميع الناس في إطاره النظيف الوضيء كأسرة واحدة وأمة واحدة، ومن وراء المكان والأوطان والقوميات والأجناس ولحقيقة العهد الذي أعلنه محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الحقيقة كلها، إيمان أمته يجمع الرسالات واحترامها لجميع الرسل، والإسلام في سعته وشموليته لكل الرسالات ممثلة في منهج للحياة الموصول بالله في سعته وشموله لكافة البشر مختلفة الأديان .