يحتمل ان بمقدور صالح تحريك جزء من التنظيم لإرباك النظام الجديد لكن ما يحدث يفوق هذه العلاقة الافتراضية «القاعدة».. جيش وأرض وانتحاريون في توقيت حساس، يضرب تنظيم القاعدة كما لم يضرب من قبل في الأرواح والدماء اليمنية ويسرح في رقعة جغرافية شاسعة تمتد من حضرموت شرقاً حتى رداع في الوسط. للقاعدة ربيعها الدامي أيضاً في اليمن منذ بسطت نفوذها على مدينة زنجبار. وزادت عملياتها الأوسع عنفاً خلال هذا الأسبوع تأكيد كم هي مريعة وفظيعة. فخلال ثمانية أيام مضت شنت القاعدة هجمات قاتلة أودت بحياة نحو 150 عسكرياً ومدنياً في أدمى هجمات منظمة توزعت على رقعة جغرافية شاسعة من المكلافزنجبار وصولاً إلى البيضاء. وتجلى خطر التنظيم المتنامي في هجوم دوفس بأبين يوم الأحد الماضي حيث قُتل نحو مائة جندي ووقع خمسون آخرون في الأسر في أول هجوم يتخذ شكل عملية عسكرية كالتي تشنها الجيوش النظامية. وفيما كان الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي يؤدي اليمين الدستورية أمام البرلمان يوم 25 فبراير الماضي كانت سيارة ملغومة يقودها انتحاري تهاجم القصر الجمهوري في مدينة المكلا فتقتل قرابة 26 شخصاً معظمهم عسكريون في قوات الحرس الجمهوري. يومها، غطت أخبار الهجوم الانتحاري على خبر أهم حدث سياسي تشهده البلاد منذ قيام الوحدة بين شطريه في 1990. وتبين أن تنظيم القاعدة هو التحدي الأمني الحاسم في المرحلة المقبلة. ثم واصل التنظيم هجماته، مستخدماً تقنية السيارات الملغومة فهاجم انتحاري يقود سيارة ملغومة يوم السبت الماضي معسكراً لقوات الحرس الجمهوري في البيضاء قبل أن يلقى مصرعه ويصيب خمسة عسكريين. ويوم السبت ذاته، انفجرت ثلاث عبوات ناسفة في أطراف معسكر لقوات الأمن المركزي بمدينة المكلا، يعتقد أن نشطاء التنظيم الإرهابي هم من زرعوها. وأسفرت الانفجارات عن قتيل وعدد من المصابين. كما قتل مسلحون على متن سيارة مساء السبت نائب مدير أمن مديرية شبام بحضرموت الرائد شائف النهمي أثناء تواجده أمام مقر أمن المديرية. ينبع هول الهجمات الجديدة من أنها تُنفذ بالمركبات المفخخة مما يزيد من عدد الضحايا ويطال أعداداً كبيرة من المدنيين دون تمييز ثم إن بعضها يتأسى بالعمليات العسكرية التي تنفذها الجيوش النظامية في دلالة على استقرار مقاتلي التنظيم على الأرض وتطور مستوى تسليحهم وإمكانياتهم المادية. ففي هجوم دوفس، تتحدث مصادر عسكرية عن أن مقاتلي أنصار الشريعة المرتبط بالقاعدة نفذوا التفافاً عسكرياً من جهة البحر على مواقع الجيش في منطقة دوفس قبل أن يوقعوا ذلك العدد الكبير من القتلى ويستولوا على عتاد عسكري بكميات كبيرة ويأسروا 50 عسكرياً. وهذا الالتفاف البحري نوع من الخطط العسكرية التي لا تطبقها إلا قوة كبيرة ومنظمة من مقاتلين مدربين تدريباً جيداً ويقاتلون وفق خطط عسكرية مدروسة. كان مقاتلو القاعدة قد أحكموا سيطرتهم على مدينة زنجبار في مايو من العام الماضي وخاضوا قتالاً طاحناً ضد القوات الحكومية مما تسبب في نزوح نحو 50 ألفاً من المدنيين إلى محافظتي عدن و لحج. وعلى مدى أربعة أشهر، ظل القتال على أشده بين مقاتلي القاعدة الذين أطلقوا على أنفسهم «أنصار الشريعة» وقوات الجيش المنضوية في اللواء 25 ميكا واللواء 119 مع مساندة من رجال القبائل في أبين قبل أن يعلن الجيش تحرير مدينة زنجبار من المسلحين في سبتمبر. غير أن التقدم الذي أحرزه الجيش تحول إلى «انتصار عظيم» تنازعته قوى المعارضة ونظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح ونسبه كل طرف إلى القوات الموالية له. كان أسخف ما وقع فيه إعلام المعارضة ونظام صالح أن ضخما ذلك التقدم الذي أثمر طرد المسلحين من داخل مدينة صغيرة بعد معركة طالت أربعة أشهر في الوقت الذي كان بإمكان عملية عسكرية محدود أن تسحق قوة المسلحين في أيام قليلة لا أن تقتصر على طردهم ثم يجري وصف ذلك بنصر تام. وعلى وقع ذلك التجاذب، كان مقاتلو «القاعدة» يعيدون تجميع قواتهم ويشنون هجمات متفرقة على مواقع الجيش وخطوطه بينما كان الجدل يعلو في صنعاء بين المعارضة التي تتهم نظام صالح بتمكين المسلحين من السيطرة على المنطقة ومنع الإمدادات عن الجيش والنظام الذي يتهم قوات الجيش الملتحقة بالانتفاضة الشعبية بدعم المسلحين بغية إسقاطه. تمسكت المعارضة على مدى سنوات بنظرية المؤامرة في تفسير نشاط تنظيم القاعدة متهمة نظام صالح باستغلاله في كسب دعم الغرب وابتزاز دول الجوار. لاجدال في أن صالحاً كان بارعاً وانتهازياً خطراً في استغلال سمعة جناح التنظيم في اليمن لكسب الدعم الدولي وتثبيت نظامه على حساب الديمقراطية لكن ليس إلى الحد الذي يفرز تنظيماً بهذه القوة والجموح. وبالتزامن مع هجمات التنظيم الأخيرة، تقفز نظرية المؤامرة إلى الواجهة لتعزى دموية الهجمات وشراستها إلى انتقام من صالح ضد نظام الحكم الجديد الذي قام على أنقاض نظامه ولثني النظام الجديد عن إعادة تنظيم الجيش الذي سيقتضي تنحية أقارب صالح من قيادة عدد من تشكيلات الجيش والأمن والمخابرات. قد يحظى هذا التفسير بوجه أصيل من أوجه الصحة خصوصاً حين يتناغم مع تاريخ طويل لنظام صالح لم يسجل وقائع واضحة أو نزيهة في مكافحة الإرهاب وهو المصطلح الذي لم يكن صالح نفسه يؤمن به إلى ما قبل الحرج الذي وقع فيه لدى تفجير المدمرة الأميركية يو إس إس كول في خليج عدن عام 2000. وإثر الضغط الأميركي عقب تفجير المدمرة كول، رضخ نظام صالح لمصطلح مكافحة الإرهاب واستدر دعماً باهظاً من الغرب لاسيما الولاياتالمتحدة الأميركية. بيد أن العلاقة الظاهرية بين الإدارة الأميركية وصالح في مسألة مكافحة الإرهاب كانت تبدو كعلاقة مستثمر مغفل بسمسار مضلل، شديد الانتهازية والابتزاز. فكان كلما زاد الدعم الأميركي لنظام صالح من أجل مكافحة الإرهاب، يتقوى تنظيم القاعدة ويوسع نشاطه في علاقة عكسية مريبة. إذ قبل أن تتفق إدارة الرئيس الأميركي السابق بوش الابن مع صالح على محاربة الإرهاب عقب الهجوم على «كول» كانت القاعدة مجرد أشخاص غلاة، يؤمنون بالجهاد ضد القوى الكافرة لكن بعد الاتفاق صار للقاعدة تنظيم في اليمن، يستقطب أعضاء ويثقفهم ثم يرسلهم للقتال وأحياناً يسيطر على مناطق ويطبق فيها أفكاره المتشددة. ولقد نشرت صحف أميركية مهمة تقارير عن كذب الإعلام الحكومي بشأن مقتل قياديين في تنظيم القاعدة خلال ضربات جوية في أرحب وشبوة أواخر 2009. كما كشفت وثائق ويكيليكس عن تخصيص السفير الأميركي السابق بصنعاء ستيفن سيش تقريراً كاملاً إلى حكومة بلاده ضمنه تبرماً من استخدام وحدة مكافحة الإرهاب المدربة وفق المنهج الأميركي العسكري والممولة أميركياً في القتال بصعدة ضد المسلحين الحوثيين. هذا واضح إذن: كان علي عبدالله صالح صاحب منهج فاسد ومراوغ في استثمار الإرهاب ومن المحتمل أن بمقدوره الآن تحريك جزء من تنظيم القاعدة لإرباك النظام الجديد، لكن ما يحدث مريع ولا يمكن لهذا الاستنباط أن يحتويه كاملاً ثم إن «القاعدة» لها عقيدتها الايدلوجية والقتالية المرعبة وتخطيطها الاستراتيجي مما يشكك في التزامها برغبة شخص من خارجها والتوقف عند حدود ما يريده. وفي هذا السياق، لابد من إدراك أن «القاعدة» ليست طارئة على النطاق الجغرافي الذي ترسخ أقدامها فيه حالياً وتشن هجمات قاتلة وعمليات عسكرية تلحق الهزيمة بجيش نظامي يتفوق عليها في مجمل النواحي. ففي أبين ظهرت بذور التطرف العنيف الذي يتلاقى مع عقيدة القاعدة في جيش عدنأبين الإسلامي خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي بزعامة أبو الحسن المحضار قبل أن يشن هجمات دامية ضد سياح غربيين. وورث مجموعة مسلحين عقيدة جيش عدنأبين بعد انفراط تنظيمه وتفكك قوته، ليشهروا عودة تلك العقيدة عبر مهاجمة قافلة طبية في 2002 ، دخلوا إثرها في مواجهات مع قوات الجيش انطلاقاً من جبل حطاط حيث تحصنوا، إلا أنهم لم يصمدوا طويلاً عقب استسلام زعيمهم خالد عبدالنبي للسلطات النظامية وإرساء علاقة ودية بين الطرفين. ظلت مجاميع المتشددين في حالة كامنة لبضع سنوات لكن تأثيرها كان يتنامى باضطراد حتى 2009 حين طغى نشاطهم على حركة المجتمع المحلي واتخذوا من منطقتي جعار وخنفر مسرحاً لتحركاتهم وخلافاتهم الداخلية التي كانت تفضي إلى اشتباكات مسلحة في الغالب. في ربيع ذلك العام قاد وزير الدفاع محمد ناصر أحمد قوة عسكرية لتعقب المسلحين المتشددين بعد أن كانوا قد فرضوا نفوذهم ونفذوا أحكاماً بالقتل ضد عدد من الشبان تطبيقاً لأحكام الشريعة وفق زعمهم. وكان مطلع 2009 قد شهد إعلان دمج القاعدة في اليمن والمملكة العربية السعودية في تنظيم موحد أُطلق عليه تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب واتخذ اليمن مقراً له. وأخذ نفوذ المسلحين الذين يستلهمون نهج القاعدة يتصاعد باضطراد فاتصلوا بالتنظيم رسمياً ثم شنوا في الفترة الواقعة بين يونيو وأغسطس 2010 سلسلة هجمات قاتلة، ذهب ضحيتها عشرات من العسكريين في الجيش والأمن وأجهزة المخابرات. تركزت الهجمات في لودر وزنجباروشبوة انطلاقاً من مدينة عدن حيث هاجموا مقر جهاز الأمن السياسي في واحدة من أجرأ الهجمات داخل المدن الحضرية. ولم يكد 2011 يحل حتى شن المتشددون موجة ثانية من الهجمات المميتة، قتلت نحو 70 عسكرياً في مناطق لودر ومودية وجعار. وكان واضحاً أن التنظيم بدأ يرسخ أقدامه هناك فشن سلسلة هجمات مميتة أودت بحياة نحو 70 عسكريا في الجيش والأمن. أضاف التنظيم مدينة جديدة إلى مسرح تحركاته فسيطر في يناير الماضي على مدينة رداع وقلعتها الأثرية مع مسجد العامرية التاريخي كما مارس صوراً مختلفة من النشاط في محافظة شبوة. يمكن لتتبع نشاط المرتبطين بالقاعدة طبقاً لتدرجه التاريخي أن يخلص إلى أن التنظيم كان يصبو بعناية إلى ملاذ ملائم بدءاً من أبين. استغلت القاعدة اضطراب الأوضاع في البلاد خلال عام كامل جراء انلاع الانتفاضة الشعبية وانصراف النظام لحماية نفسه فسيطرت على زنجبار تطبيقاً للنظرية الأثيرة لديها بشأن توافر فرص النشاط في مناطق الاضطراب وهي النظرية التي وردت كثيراً في خطط التنظيم وشدد عليها مؤسسه أسامه بن لادن في إحدى خطاباته. لتصور كم أن ما يفعله تنظيم القاعدة حالياً يشكل تحدياً سيتضخم باستمرار، يمكن بسط خارطة جغرافية للبلاد وتتبع المسافة من حضرموت في أقصى الشرق فأبين ثم شبوة وصولاً إلى البيضاء. يتحرك نشطاء القاعدة حالياً في هذا النطاق بسهولة ويبسطون نفوذاً ملموسا. من غير الممكن أن تصمد نظرية المؤامرة أمام تغول القاعدة وهجماتها الوحشية. اخبارية نت / المصدرأونلاين